سر المنزل المهجور
في قريةٍ هادئةٍ تقعُ على أطرافِ غابةٍ كثيفةٍ، كان هناكَ منزلٌ قديمٌ يُغَلِّفُه الغموضُ والخوفُ. بُنِيَ المنزلُ منذُ زمنٍ بعيدٍ، ومنذُ سنواتٍ طويلةٍ وهو مهجورٌ، يُروى عنه قصصٌ غريبةٌ تجعلُ الجميعَ يتجنبه. كانَ السكانُ يعتقدونَ أنَّه مأوىً للأشباحِ، فقد سمعوا أصواتًا غريبةً تنبعثُ منه ليلًا، ورأوا أضواءً خافتةً تتحرَّكُ خلفَ نوافذه المتآكلة. معَ مرورِ الزمنِ، أصبحَ المنزلُ رمزًا للرعبِ في القريةِ، حتى أنَّ الأطفالَ كانوا يخافونَ مجردَ النظرِ إليه، فما بالكَ بالاقترابِ منه! لم يكنْ أحدٌ يجرؤ على كسرِ هذا الحاجزِ النفسيِّ، وكانَ المنزلُ يظلُّ مهجورًا، يكتنفُه الصمتُ والظلامُ.
كان سامي فتىً مختلفًا عن بقيةِ أبناءِ
قريتِه. ذكاؤُه وفضولُه كانا يميِّزانِه عن الآخرينَ، إضافةً إلى شجاعتِه التي لم
تعرفِ الخوفَ. كلَّما سمعَ سامي قصةً جديدةً عن المنزلِ المهجورِ، زادَ إصرارُه
على اكتشافِ الحقيقةِ بنفسِه. كانَ يستمعُ لحكاياتِ الكبارِ بشغفٍ، ويفكِّرُ دومًا
فيما إذا كانتْ تلكَ القصصُ مبنيةً على الحقيقةِ أم مجردَ خرافاتٍ تناقلتها
الألسنُ. في أعماقِ قلبِه، كانَ يشعرُ أنَّ هناكَ شيئًا مميزًا في هذا المنزلِ،
وأنَّ الإجاباتِ التي يبحثُ عنها ستُغيِّرُ فهمَه لما يُحيطُ به.
في إحدى الليالي المقمرةِ، بينما كانتِ
القريةُ تغرقُ في هدوءٍ عميقٍ، قرَّرَ سامي أن يُواجهَ مخاوفَه. جمعَ بعضَ
الأدواتِ البسيطةِ: مصباحًا صغيرًا، وحبلًا، ومذكرةً لتسجيلِ ملاحظاتِه. ارتدى
معطفَه الثقيلَ وغادرَ منزلَه بهدوءٍ، عازمًا على الدخولِ إلى المنزلِ القديمِ
وكشفِ الأسرارِ التي تخيفُ الجميعَ. كانتِ الرياحُ تهبُّ بهدوءٍ، وكأنَّها تهمسُ
له بتشجيعٍ خفيٍّ، بينما سارَ عبرَ الطريقِ الضيقِ المحاطِ بالأشجارِ الكثيفةِ.
عندما وصلَ سامي إلى المنزلِ، لاحظَ
أنَّ البوابةَ الحديديةَ الصدئةَ كانتْ مفتوحةً قليلًا، تُصدرُ صوتًا حادًّا معَ
كلِّ هبةِ ريحٍ. وقفَ أمامَ البوابةِ لبضعِ لحظاتٍ، متأملًا في مدى شجاعتِه
وإصرارِه. ثمَّ استجمعَ قواهُ ودفعَها ببطءٍ لتُصدرَ صوتًا مزعجًا يكسِرُ هدوءَ
الليلِ. عبرَ الفناءَ الأماميَّ، الذي امتلأَ بالعشبِ البريِّ والنباتاتِ
المتسلِّقةِ، حتى وصلَ إلى البابِ الخشبيِّ الكبيرِ. دفعَ البابَ برفقٍ، ليكتشفَ
أنَّ المفصلاتِ القديمةَ تصرخُ بصوتٍ عالٍ. دخلَ المنزلَ بخطواتٍ حذرةٍ، متفحصًا
المكانَ بعينيهِ.
كانتِ الأرضيةُ مغطاةً بطبقةٍ سميكةٍ
من الغبارِ، والأثاثُ القديمُ مغطىً بأقمشةٍ بيضاءَ باهتةٍ، وكأنَّ المنزلَ
بأكملهُ محاطٌ برائحةِ الزمنِ المنسيِّ. الجوُّ كانَ ثقيلًا ومليئًا بالكآبةِ.
وبينما كانَ سامي يخطو ببطءٍ، سمعَ صوتَ خطواتٍ خافتةٍ قادمةً من الطابقِ
العلويِّ. تجمَّدَ في مكانِه للحظةٍ، وشعرَ بقلبِه ينبضُ بسرعةٍ كأنَّهُ يريدُ
الخروجَ من صدرِه، لكنَّه جمعَ شجاعتَه وقرَّرَ مواجهةَ ما ينتظرُه في الأعلىِ.
بدأَ سامي يصعدُ السلمَ الخشبيَّ
بحذرٍ، متجنبًا أيَّ حركةٍ قد تُصدرُ صوتًا. عندَ وصولِه إلى الطابقِ العلويِّ،
وجدَ نفسَه أمامَ غرفةٍ كانتْ مضاءةً بضوءِ شموعٍ خافتٍ، ينبعثُ منها وهجٌ غريبٌ.
دفعَ البابَ ببطءٍ ودخلَ الغرفةَ ليجدَ رجلًا عجوزًا يجلسُ على كرسيٍّ خشبيٍّ
بسيطٍ، يبتسمُ له بهدوءٍ. كانَ العجوزُ يبدو ودودًا بشكلٍ غيرِ متوقعٍ، مما زادَ
من دهشةِ سامي.
قالَ الرجلُ العجوزُ بصوتٍ هادئٍ:
"مرحبًا يا سامي. كنتُ أعلمُ أنَّكَ ستأتي." كانتْ هذهِ الكلماتُ كافيةً
لتجعلَ سامي يتجمَّدُ في مكانِه، غيرَ قادرٍ على استيعابِ الموقفِ. كيفَ عرفَ
الرجلُ اسمَه؟ ولماذا كانَ ينتظرُه؟ حاولَ سامي الحديثَ، لكنَّ الكلماتَ لم تخرجْ
من فمِه.
بدأَ العجوزُ يسردُ قصةَ المنزلِ وتاريخَه الطويلَ، موضحًا أنَّه كانَ ملكًا لعائلتِه لعدةِ أجيالٍ. أخبرَ سامي أنَّ الإشاعاتِ عن كونهِ منزلًا للأشباحِ انتشرتْ عندما غادرَ أفرادُ العائلةِ، وبقي هو وحيدًا في المنزلِ. بدافعِ الحزنِ والعزلةِ، لم يحاولِ التواصلَ معَ أهلِ القريةِ، مما جعلَهم يظنُّونَ أنَّ المنزلَ مسكونٌ.
بمرورِ الوقتِ، شعرَ سامي بالراحةِ.
أدركَ أنَّ كلَّ تلكَ القصصِ المخيفةِ لم تكنْ سوى أوهامٍ، وأنَّ الحقيقةَ أبسطُ
بكثيرٍ مما تخيَّلَه الجميعُ. تحدَّثَ سامي معَ الرجلِ العجوزِ لساعاتٍ، يستمعُ
إلى قصصِه عن الماضي وعن العائلةِ التي عاشتْ في المنزلِ. عرضَ العجوزُ على سامي
أنْ يزوره متى شاءَ، قائلًا إنَّ المنزلَ ليسَ مكانًا مخيفًا بل يحملُ ذكرياتٍ
جميلةً.
عادَ سامي إلى قريتِه معَ شروقِ
الشمسِ، وقدْ ملأتْه الحماسةُ لنقلِ ما اكتشفَه. اجتمعَ أهلُ القريةِ حولَه بينما
كانَ يروي لهم القصةَ الحقيقيةَ للمنزلِ. شعرَ الجميعُ بالدهشةِ، وأدركوا أنَّ
الخوفَ يأتي غالبًا من الجهلِ وقلةِ المعرفةِ. تحوَّلَ المنزلُ، الذي كانَ رمزًا
للخوفِ، إلى مكانٍ يقصدُه الناسُ للاستماعِ إلى حكاياتِ الرجلِ العجوزِ. أصبحَ
سامي بطلًا في قريتِه، ليسَ لأنَّه كانَ شجاعًا فقط، بل لأنَّه علَّمَهم أنْ
يواجهوا مخاوفَهم ويبحثوا عن الحقيقةِ بأنفسِهم.
x