أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

جدلية الوجود في منزل عتيق

جدلية الوجود في منزل عتيق
جدلية الوجود في منزل عتيق
في اليوم الأول:
منزل عتيق تفوح منه رائحة الذكريات، وتنساب في أركانه أصوات الماضي، وقفت الأشياء في سكون مترقب، كما لو أن صراعًا خفيًا كان يختمر في زوايا المكان. الليل قد حلّ، وأطفاله – الظلال – تمددت على الجدران في هدوء. في ذلك الوقت الذي تخبو فيه الضوضاء البشرية، يبدأ حوار آخر لا تسمعه الآذان، لكنه قائم، متقد كجمر تحت الرماد.

الثلاجة، كيان بارد يهمس بصوت عميق لكنه متماسك:

"أنا قلب هذا المنزل، النبض الذي يحفظ الحياة داخل جدرانه. أنا من يصون الطعام، أمدّ البشر بما يبقيهم أحياء، ولو غبتُ عنهم لأدركوا هشاشتهم أمام الزمن والعفن."

قهقه الفرن بوهج نيرانه وقال بصوت ملءه الحرارة:

"ولكن يا صاحبة الجليد، أنتِ تحفظين الأشياء كما هي، أما أنا فأمنحها التحوّل. أنا من يغيّر قسوة الأشياء إلى لين، وبرودتها إلى دفء، وجمودها إلى سيولة. بدون ناري، يبقى العالم خاملاً لا طعم له!"

من زاوية أخرى، دوّت الغسالة بصوت ماء متدفق، كأنها أمواج تتلاطم داخل محيط ضيق:

"وهل تُرى الحضارة قائمة على طعام فقط؟ إن كانت حياة الإنسان مجرد أكل وبقاء، فما الفرق بينه وبين الوحوش في البرية؟ أنا من يمنحهم النظافة، الصفاء، التجدد، أنا من أغسل عنهم أوساخ يومهم، فلا يظلون عالقين في الماضي، بل يبدأون كل يوم ببداية نقية!"

تنهدت المكنسة الكهربائية بصوت سحب الهواء، ثم قالت ببطء كما لو أنها تفكر في كلامها:

"أيها المتفاخرون بوظائفكم، دعوني أسألكم: أين يعمل الإنسان؟ أين يسير؟ أين ينام؟ هل يستطيع أن يعيش وسط الفوضى؟ أنا من أزيل الفائض، من أكنس الزوائد، من أعيد المساحات إلى صفائها. بدوني، ستعمّ الفوضى، وتختلط الألوان بالألوان حتى لا يبقى لون!"

لم يملك الباب إلا أن يصرّ بمفاصله في استياء، ثم قال:

"يا لكم من متشاكسين! أنتم جميعًا تهتمون بما هو داخل المنزل، لكن هل تدركون أنني الحدّ الفاصل بين الداخل والخارج؟ أنا من أسمح بالعبور، ومن أمنع التطفل. أنا الحارس الصامت، الغفلة عني تعني السقوط في الفوضى، فهل يتساوى من يسكن بيتًا بلا باب بمن يعيش في العراء؟"

احتدّ الجدال، كل شيء يدافع عن دوره كأنها حرب وجود، كأن الاعتراف بأهمية الآخر يعني نقصًا في الذات. غير أن صوتًا خافتًا، لكنه ممتلئ بالحكمة، اخترق الصمت. كانت المصباح الكهربائي يضيء ويخبو كمن يتنفس ببطء، ثم قال بصوت أشبه بحكمة شيخ رأى العالم بأكمله:

"أنتم جميعًا تتحدثون عن دوركم كأفراد، لكن هل تدركون أن كل واحد منكم لا يساوي شيئًا دون الآخر؟ الفرن يحتاج الثلاجة لتحفظ له الطعام حتى يأتي دوره. الغسالة تحتاج إلى باب يُغلق لتحفظ الخصوصية، والمكنسة تعمل لتنظيف بقايا ما سقط بعد الأكل، وأنا... أنا من يمنحكم جميعًا الرؤية، الوجود بلا نور هو صمت أزلي، هو تيه لا نهاية له. فهل فيكم من يدّعي أنه مكتفٍ بذاته؟"

ساد الصمت. أدركت كل مكونات المنزل أن وجودها ليس مطلقًا، بل نسبيّ، وأنها رغم اختلافاتها، ليست سوى أجزاء من صورة واحدة. ومنذ ذلك اليوم، لم يعد أحدهم يتحدث عن ذاته فقط، بل صار كل منهم ينظر إلى الآخر كامتداد له، كأن الحياة ليست سوى سلسلة من العطاء المتبادل.

وفي زاوية صغيرة، وسط هدوء الليل، كان المنزل يبتسم بصمت.

قد يعجبك ايضا

في الصباح التالي:

استيقظ المنزل على همسات أشعة الشمس التي تسللت عبر النافذة، كأنها تلقي تحية هادئة على كل ركن فيه. كان الجو مشحونًا بهدوء غير مألوف، وكأن الصراع الذي دار الليلة الماضية لم يكن سوى حلم تلاشى مع أولى خيوط الفجر. لكن الحقيقة لم تكن كذلك، فقد بقيت أفكار الليلة الماضية تتردد في زوايا المكان، تسكن في عقول مكوناته، تثير التساؤل: هل كان أحدهم محقًا؟ أم أن الحكمة التي قالها المصباح هي الحقيقة المطلقة؟

الثلاجة، التي لطالما كانت ثابتة في مكانها، شعرت بشيء غريب في داخلها. نظرت إلى رفوفها الممتلئة بالطعام وقالت لنفسها:

"ترى، لو لم يكن هناك فرن لطهي هذا الطعام، هل كنت سأحمل ذات الأهمية؟ أأنا حقًا أساس الحياة؟ أم أنني مجرد مرحلة منها؟"

أما الفرن، فقد كان يشعر بنوع من القلق. لم يكن له وجود دون الطعام الذي يأتيه، ولم يكن قادراً على أداء مهمته دون طاقة تمنحه الحياة. فجأة، بدأ يفكر:

"ما جدوى النيران إن لم تجد ما تطهوه؟ وما جدوى الحرارة إن لم تجد من يستفيد منها؟"

أما الغسالة، فقد كانت تشعر أن دورتها المستمرة بلا توقف لم تكن ذات معنى إن لم يكن هناك يد تضع الملابس وأخرى تخرجها. حتى المكنسة، التي كانت ترى نفسها سيدة النظافة، بدأت تدرك أن الأوساخ ليست عدواً، بل جزء من دورة الحياة، وأنها ليست سوى وسيط في معركة لا تنتهي بين النظام والفوضى.

لكن وسط هذه الأفكار المتشابكة، كان الباب هو الأكثر قلقًا. ظل طوال الليل يفكر في دوره، في كونه الحاجز بين الداخل والخارج، لكنه بدأ يتساءل:

"ما فائدة باب مغلق في منزل مهجور؟ هل أنا الحامي أم السجان؟ هل أملك سلطة العبور أم أنني مجرد منفذ لما يختاره غيري؟"

وبينما كان كل واحد منهم غارقًا في أفكاره، دوّى صوت مألوف في المكان. كان المصباح الكهربائي يضيء وينطفئ وكأنه يضحك، ثم قال:

"أرى أنكم بدأتم تفهمون! أنتم لستم أسيادًا منفصلين، بل حلقات في سلسلة، ولكل واحد منكم معنى لا يكتمل إلا بالآخر!"

حينها، ولأول مرة، لم يُجِب أحد، لم يحتجّ أحد، لم يسخر أحد. فقط، كان هناك صمت عميق، لكنه ليس صمت العجز أو الجهل، بل صمت التأمل، صمت الإدراك.

وفي تلك اللحظة، شعر المنزل بشيء مختلف... كأنه صار أكثر تماسكًا، أكثر دفئًا، كأنه تنفس أخيرًا الصعداء. ومنذ ذلك اليوم، لم يعد أي من مكوناته ينظر إلى نفسه بمعزل عن البقية، بل صار كل منهم يرى ذاته من خلال الآخر.

وهكذا، لم يكن المنزل مجرد جدران وأشياء، بل صار كائناً ينبض بالحياة، بحكمة الوحدة، بقوة التماسك.

الأيام الموالية:

في الأيام التي تلت تلك اللحظة العميقة، بدأ المنزل يعيش في انسجام جديد. كل مكون بدا وكأنه قد استوعب دروسه، وأصبح لديه إدراك عميق حول دوره ضمن الصورة الأكبر. لكن كان هناك شيء آخر يلوح في الأفق، شيء غامض لا يمكن تجاهله. كان الباب، الذي كان يشعر منذ وقت طويل بالقلق، قد بدأ يلاحظ شيئًا غريبًا في مكانه. كان هناك هواء غير معتاد يتسلل عبر شقوقه، وكأن هناك من يحاول عبوره بطرق غير مرئية.

ذات مساء، بينما كان الضوء يخف تدريجياً، سمع الباب صوتًا خافتًا يأتي من بعيد. كان الصوت يزداد قربًا، كأن هناك شيئًا أو شخصًا قادمًا. أصبح الباب أكثر يقظة، وبدأ يتحسس الحركة من الخارج. فجأة، اندفعت الرياح بقوة عبر الشقوق، متسللة عبر فتحة ضيقة. شعر الباب وكأنها كانت تهمس له بشيء غريب، ثم استقرت الرياح في الصمت، تاركة الباب في حيرة عميقة.

أخذ المصباح يتأرجح في مكانه، كما لو أنه يعلم أن هناك شيئًا مختلفًا يحدث في المنزل، شيئًا يتجاوز حدود فهم المكونات الأخرى. قال بصوت عميق:

"أرى أن العالم خارج هذا المنزل قد بدأ يتغير، وقد يأتي التغيير إلينا قريبًا."

بدأت الثلاجة تتساءل أيضًا:

"هل ما زال العالم يحتاج إلى الطعام الذي أخزنه؟ هل سنتغير نحن جميعًا، أم سيأتي شيء جديد ليحل محلنا؟"

أما الفرن، فقد شعر وكأن وظيفته قد أصبحت عتيقة، كما لو أن هناك شيءًا أكبر وأعمق يحدث في العالم من حولهم. قال مع نفسه:

"ربما نحن جزء من مرحلة قديمة من الزمن، والآن جاء الوقت لإعادة تعريف دورنا في هذا المكان."

وكانت الغسالة قد بدأت تلاحظ تغيرًا في الأقمشة التي كانت تعتني بها. أصبح الغسيل أكثر تعقيدًا، الألوان بدأت تتداخل بطرق غير مألوفة، كما لو أن هناك مزيجًا من الماضي والمستقبل يغزو الأقمشة. قالت الغسالة بصوت رقيق:

"هل نحن فقط نعيد تنظيف الماضي؟ هل سنتمكن من مواجهة التحديات الجديدة التي قد تأتي؟"

لكن المكنسة، التي كانت دومًا تركز على التنظيف وإزالة الفوضى، بدأت تشعر بشيء أكبر من مجرد أوساخ تنتظر أن تُمتص. كان هناك نوع من الفوضى غير الملموسة، شيء يختلط في الهواء، ولا يمكن رؤيته أو لمسه. قالت المكنسة بصوت هادئ:

"قد تكون الفوضى جزءًا من الحياة، لكن الآن، يبدو أن هناك فوضى من نوع آخر، فوضى تتعدى ما نعرفه."

لم يكن أي من هذه المكونات يعلم ما سيحدث بعد ذلك، لكنهم جميعًا شعروا أن الوقت قد حان لتغيير جديد، تغيير يتجاوز مجرد وظيفتهم كأشياء ثابتة. في تلك اللحظة، شعروا جميعًا بأنهم كانوا مجرد أدوات في عالم أوسع، وأن التغيير الذي سيأتي ربما كان أكثر عمقًا من مجرد تغيرات في المكونات، بل في طبيعة الحياة نفسها.

وفي تلك الليلة، وعندما كانت الرياح تهب من الخارج، اختفى ضوء المصباح فجأة، وانطفأ الفرن، وهدأت الغسالة، وعلت المكنسة بُعدًا غريبًا في الهواء، بينما بقي الباب مفتوحًا على مصراعيه، يستقبل شيئًا جديدًا، شيئًا لا يعرفه أحد بعد، لكن الجميع كان يشعر به في قلبه.

ربما، كان المنزل على وشك الدخول في مرحلة جديدة من الحياة، حيث لن يكون هناك من هو الأهم، بل ستكون هناك حاجة جديدة للتعاون، حاجة أكثر عمقًا وتحديًا.
تعليقات