قصة بدر الكبرى
كان الليل هادئًا فوق رمال بدر، لكنه لم يكن كأي ليل. هناك، وسط الظلام، وقفت كتيبة صغيرة من المؤمنين، يملأ قلوبهم الإيمان، وأعينهم تترقب الفجر القادم، الفجر الذي سيشهد أول معركة فاصلة بين الحق والباطل.
وقف رسول الله ﷺ يتأمل السماء، يناجي ربه، يرفع يديه بالدعاء:
"اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبد في الأرض أبداً!"
على الجانب الآخر، كانت قريش تتقدم بجيشها الجرار، ثلاثة أضعاف عدد المسلمين، بخيلاء وغطرسة. كان أبو جهل، قائدهم، يقف في مقدمتهم، متبجحًا بقوته، غير مدرك أن القدر قد كتب نهايته في ذلك اليوم.
مع انبلاج الفجر، اصطفّ الجيشان. وقف رسول الله ﷺ يشحذ همم أصحابه، قائلاً:
"قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض!"
فانتفض عمير بن الحمام، شابٌ لم يبلغ العشرين، ورمى ببعض التمرات قائلاً:
"لئن بقيت حتى آكل هذه التمرات، إنها لحياة طويلة!"
ثم انطلق كالسهم، قاتل حتى ارتقى شهيدًا، فتبعه إخوانه بشجاعةٍ منقطعة النظير.
بدأت المبارزة، فخرج من المشركين عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، فتصدى لهم حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث. دارت السيوف، وتعالت الصيحات، وسقط قادة قريش صرعى، إيذانًا ببداية المعركة.
اشتد القتال، ووسط الهيجاء، وقف رسول الله ﷺ ملوّحًا بيده:
"سيُهزم الجمع ويولّون الدبر!"
وما هي إلا لحظات حتى انقلبت الموازين، فقد ألقى الله الرعب في قلوب المشركين، وإذا بالملائكة تنزل تقاتل مع المؤمنين، يروى أن أحد الصحابة كان يطارد مشركًا، فأصابته ضربة قبل أن يصل إليه! سمع صوتًا في الهواء يقول:
"أقدِمْ حيزوم!"
كانت الملائكة تخوض المعركة إلى جانب المسلمين، فأخذت قريش تهرب، وتساقطت راياتهم، وسقط رأس الطغيان، أبو جهل، تحت ضربات ابن مسعود.
عندما انتهى القتال، وقف النبي ﷺ على ساحة المعركة، ونظر إلى قتلى قريش، ثم قال:
"هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًا."
كانت بدر فرقانًا بين مرحلتين، حيث خرج الإسلام من ضعفه ليبدأ عصر النصر، وكان ذلك اليوم شهادةً خالدةً على أن الإيمان، حين يستقر في القلوب، لا تُهزمه كثرة، ولا تغلبه قوة.
بعد النصر: فجر جديد للإسلام
حين أسدل الليل ستاره على ساحة المعركة، خيم السكون على أرض بدر، لكن القلوب لم تهدأ، والعيون لم تغمض. كان المسلمون يجمعون شهداءهم، يدفنونهم بعزة وكرامة، بينما بقيت جثث قادة قريش متناثرة على الرمال، شاهدةً على تبدل موازين القوة.
وقف رسول الله ﷺ فوق بئر مهجورة، حيث ألقيت جثث الطغاة من قريش، ناداهم بأسماء من كانوا يظنون أنفسهم أعزاءً فوق الأرض:
"يا أبا جهل بن هشام! يا عتبة بن ربيعة! يا شيبة بن ربيعة! هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا!"
كان المشهد مهيبًا، وكان النصر قد تجلى في أبهى صوره. لكن النبي ﷺ لم يكن منتشيًا بالدماء أو متعاليًا بالانتصار، بل كان يحمل قلبًا رحيمًا، حتى وهو يرى أعداءه صرعى.
العودة إلى المدينة: موكب النصر
حين وصل الخبر إلى المدينة، علت تكبيرات الفرح، وتعالت أصوات المؤمنين يحمدون الله على نصره. دخل المسلمون المدينة مرفوعي الرأس، في حين كان المشركون في مكة غارقين في الذهول، لم يصدقوا أن تلك الفئة القليلة استطاعت أن تحطم كبرياءهم.
أما الأسرى، فقد تعامل معهم رسول الله ﷺ بأسمى قيم الرحمة، فأوصى أصحابه بالإحسان إليهم، حتى أن بعضهم قالوا:
"كنا نأكل الخبز، بينما كانوا يطعموننا التمر!"
ثم أطلق سراح بعضهم مقابل الفداء، وأعتق آخرين بشرط أن يعلموا المسلمين القراءة والكتابة، ليؤسس بذلك أول مدرسة في الإسلام، حيث لم يكن النصر مقتصرًا على السيف، بل كان نصرًا للعلم والفكر أيضًا.
بدر: نقطة التحول الكبرى
لم تكن غزوة بدر مجرد معركة، بل كانت نقطة تحول غيرت وجه التاريخ. كانت الرسالة واضحة: لم يعد الإسلام دعوة مستضعفة، بل قوة تنهض على الحق، لا يخيفها الطغيان، ولا تزعزعها المؤامرات.
ومنذ ذلك اليوم، صار المسلمون قوةً يهابها أعداؤهم، وصار اسم محمد ﷺ يتردد في أرجاء الجزيرة العربية، ليس كداعية فقط، بل كقائد، ونبي أيده الله بنصره، وجعل له السيادة في الدنيا والآخرة.
وهكذا، كانت بدر فجرًا جديدًا، لا للمسلمين وحدهم، بل للبشرية كلها، حيث انتصر الإيمان على الكفر، والحق على الباطل، وبقيت تلك الملحمة خالدةً في صفحات التاريخ، ترويها الأجيال جيلًا بعد جيل.