رحلة جابر، من الفقر إلى الأمل
الفصل الأول: جابر والحياة الضيقة
كان الليل قد بدأ يُسدل ستاره على القرية الصغيرة التي لم يخرج منها جابر الحلواني يومًا. جابر، الرجل الذي عبر الثلاثين من عمره دون أن يغادر أزقة قريته الموحلة، جلس أمام منزله المهترئ، ينظر إلى النجوم في صمت، متأملًا في حياته التي لم تمنحه إلا الفقر والخوف.
كبر جابر يتيمًا بعد أن فقد والديه في سن مبكرة، ولم يكن لديه فرصة للالتحاق بالمدرسة. عاش على القليل، وقضى معظم حياته يتنقل بين الأعمال اليدوية البسيطة التي بالكاد توفر له قوت يومه. لكنه كان يخاف من المستقبل، يخاف من ألا يجد عملًا في الغد، يخاف من أن يسقط سقف منزله العتيق فوق رأسه.
لم يكن منزله سوى جدران متآكلة وسقف تسربت منه مياه الأمطار حتى بات موشكًا على الانهيار. كان الباب الخشبي بالكاد يُفتح من شدة تآكله، وفي كل زاوية من زوايا المنزل كانت هناك عيون صغيرة تراقبه، أعين الجرذان والحشرات التي اعتادت العيش معه.
في تلك الليلة، كان يشعر بجوع شديد، ولم يكن في منزله ما يأكله سوى كسرة خبز يابسة وكأس من الماء العكر. تنهد بعمق وهو يفكر في حل للخروج من هذه الحياة القاسية. لم يكن لديه خيار سوى البحث عن عمل جديد، لكن العمل في القرية كان نادرًا، وخوفه من السفر خارجها كان يمنعه من تجربة أي شيء جديد.
طرق باب منزله صديقه القديم، محمود، الذي كان يحمل في عينيه شيئًا من الحماس. جلس إلى جانبه وقال: "جابر، هناك فرصة عمل في المدينة المجاورة. يقولون إنهم بحاجة لعمال في مصنع كبير. لماذا لا تحاول؟"
شعر جابر بقشعريرة تسري في جسده، فكرة مغادرة القرية كانت بالنسبة له كابوسًا. لكنه كان يعلم أنه إذا لم يفعل شيئًا الآن، فقد لا يجد ما يأكله غدًا. كان عليه أن يقرر: هل يواجه خوفه أخيرًا، أم يستمر في العيش تحت رحمة الجوع والفقر؟
لم يدرك جابر أن هذه الرحلة البسيطة قد تكون أعظم مغامرة في حياته، وربما الأخيرة...
الفصل الثاني: الطريق إلى المجهول
لم ينم جابر تلك الليلة، ظل مستلقيًا فوق حصيرته الممزقة، وعيناه معلقتان بالسقف المتشقق. كانت فكرة مغادرة قريته كفيلة بأن تبث الرعب في قلبه. لكنه كان يعرف أن بقاءه هنا لن يغير شيئًا.
مع أول خيوط الفجر، ارتدى جابر ملابسه القديمة، حمل كيسًا صغيرًا وضع فيه بعض الخبز اليابس، ثم خرج ليلتقي بمحمود عند أطراف القرية. كان الطريق إلى المدينة المجاورة وعِرًا، ولم يكن أحد يعرف ماذا يمكن أن يواجهوه هناك.
سارا بصمت في البداية، ثم قال محمود بصوت خافت: "أعلم أنك خائف يا جابر، لكن هذه فرصتك للخلاص من هذا البؤس. المدينة مليئة بالفرص، ولن تبقى عاملًا بسيطًا طوال حياتك."
تنهد جابر وقال: "أنا لا أخاف من العمل، لكنني لا أعرف شيئًا عن العالم خارج هذه القرية. ماذا لو لم أجد عملاً؟ ماذا لو ضعت؟"
ضحك محمود وقال: "لن تكون وحدك، أنا معك، وسنجد طريقنا معًا."
مع اقترابهما من المدينة، بدأ جابر يشعر بثقل غريب في صدره، كما لو أن شيئًا غير طبيعي كان يترصده. لم يكن يدري أن هذه الرحلة ستقوده إلى مواجهة أعمق مخاوفه، وأن شيئًا مخيفًا كان ينتظره هناك...
الفصل الثالث: المدينة المظلمة
حين وصل جابر ومحمود إلى مشارف المدينة، بدا كل شيء مختلفًا عما تخيله جابر. كانت الشوارع شبه خالية، والمباني القديمة متراصة بإحكام كأنها تخفي أسرارًا سوداء بين جدرانها. الأضواء الخافتة على أطراف الطريق جعلت المكان يبدو كئيبًا، وكأن المدينة بأكملها تحتضر في صمت.
نظر جابر إلى محمود بقلق، وقال بصوت متردد: "هذه المدينة... لماذا تبدو بهذا الشكل؟ أين الناس؟"
أجاب محمود بصوت خافت: "ربما وصلنا في وقت متأخر. دعنا نبحث عن مكان نقيم فيه الليلة، وغدًا نذهب للمصنع."
تحركا داخل المدينة، لكن كل خطوة كانت تزيد من إحساس جابر بعدم الارتياح. فجأة، لمحت عيناه رجلاً عجوزًا يجلس أمام متجر قديم، يحدق بهما بنظرات ثاقبة. اقترب منه محمود وسأله عن مكان للمبيت.
تمتم العجوز بصوت خشن: "أنتم غرباء، صحيح؟ المدينة ليست كما كانت. إن كنتم تبحثون عن مأوى، فاذهبوا إلى النزل في نهاية الشارع... ولكن احذروا... لا تخرجوا بعد منتصف الليل."
تبادل جابر ومحمود النظرات، ثم شكراه وانصرفا. عند وصولهما إلى النزل، استقبلهما صاحب المكان بوجه متجهم، وكأن وجودهما لم يكن مرحبًا به. أعطاهما غرفة ضيقة ذات سريرين متهالكين، ثم غادر دون كلمة إضافية.
تمدد جابر على سريره وهو يشعر أن شيئًا غريبًا يحدث هنا. كان الجو خانقًا، والمدينة تبدو وكأنها تخفي سرًا كبيرًا.
في منتصف الليل، استيقظ جابر على صوت غريب خارج النافذة. نهض ببطء، واقترب لينظر...
ما رآه جعله يتجمد في مكانه. كانت هناك ظلال تتحرك في الشارع المظلم، كأنها أشباح تتجول في صمت، بلا ملامح... بلا وجوه...
الفصل الرابع: التحذير المجهول
تراجع جابر بسرعة عن النافذة، محاولًا التقاط أنفاسه. التفت إلى محمود، فوجده مستغرقًا في النوم العميق، وكأن شيئًا لم يحدث. لكن الصوت في الخارج لم يتوقف، بل ازداد غموضًا.
فجأة، سُمع صوت طرق خفيف على الباب. تجمد جابر في مكانه، ثم سار ببطء وفتح الباب بحذر. لم يكن هناك أحد... فقط ملاحظة صغيرة موضوعة على الأرض.
التقط الورقة بيد مرتجفة، وفتحها ليجد فيها كتابة بخط يد غريب: "أهربوا قبل فوات الأوان... الليلة الأخيرة قريبة."
شعر جابر بقشعريرة تسري في جسده. التفت إلى محمود وهزه بقوة حتى استيقظ، وقال له بصوت مرتجف: "يجب أن نرحل من هنا فورًا! هناك شيء خاطئ في هذه المدينة."
تثاءب محمود ونظر إليه بكسل، لكنه حين رأى تعبير الذعر في وجهه، نهض بجدية. "ماذا رأيت؟"
أشار جابر إلى الورقة، ثم إلى النافذة، حيث كانت الظلال لا تزال تتحرك بصمت. هنا، أدرك محمود أن الأمر لم يكن مجرد أوهام... بل كانا في خطر حقيقي.
الفصل الخامس: الهروب المستحيل
وقف جابر ومحمود في وسط الغرفة، يحدقان في بعضهما البعض بوجوه يملؤها الخوف والريبة. كان القرار واضحًا: يجب أن يغادرا المدينة قبل أن يحدث شيء مروع.
بدأ محمود بجمع أغراضه القليلة بسرعة، بينما وقف جابر قرب الباب مصغيًا لأي صوت غريب. الشارع كان هادئًا بشكل مريب، كأن المدينة بأكملها كانت تحبس أنفاسها.
لكن فجأة، انطفأت الشموع دفعة واحدة، وغرق المكان في ظلام دامس.
ثم سمعا صوتًا هامسًا خلفهما:
"لقد تأخرتم..."
الفصل السادس: لعنة المدينة
تسمر جابر ومحمود في مكانهما، والظلام يلتف حولهما كستار كثيف يخفي ما لا يريدان رؤيته. كانت الكلمات الأخيرة التي سمعاها كفيلة بأن تحبس أنفاسهما، ولكن عندما التفتا خلفهما، لم يجدا أحدًا.
بدأ قلب جابر يخفق بقوة، وشعر بأن الهواء أصبح ثقيلاً، كأن شيئًا غير مرئي يحيط بهما. أمسك محمود بيده وقال بصوت هامس: "يجب أن نخرج الآن، لا وقت للتردد!"
تحركا بحذر نحو الباب، لكن عندما فتحاه، وجدا الممر المؤدي إلى الخارج قد تغير. لم يعد ذلك الرواق الخشبي القديم، بل تحول إلى ممر حجري طويل، جدرانه مغطاة بنقوش غامضة وأضواء خافتة تلمع كأنها أعين تراقبهما.
تراجع جابر خطوة إلى الوراء وهمس: "هذا... ليس النزل الذي دخلناه!"
شعر محمود بأنفاسه تتسارع، لكنه كان يعلم أنه لا يمكنهما العودة إلى الغرفة، خاصة بعد سماع ذلك الصوت الغامض. أمسك بيد جابر وسحبه للأمام، وقال بصوت ثابت: "مهما كان هذا المكان، فإن الوقوف هنا لن ينفعنا. علينا المضي قدمًا."
لم يدركا أن كل خطوة كانا يخطوانها كانت تقودهما إلى سر المدينة المخفي منذ قرون… سرٌّ لم ينجُ منه أحد قبلهما.
ترى، ماذا ينتظرهما في نهاية الممر؟
الفصل السابع: المدينة المحجوبة
كلما تقدما في الممر الحجري، كان الهواء يصبح أكثر كثافة، وأصوات خطواتهما تتردد بشكل غير طبيعي في المكان الفارغ. الأضواء اللامعة على الجدران، التي كانت تظهر وتختفي فجأة، جعلت جابر يشعر وكأن عيونًا خفية تراقبهم في كل لحظة.
لم يكن يستطيع تحديد ما إذا كان هذا المكان جزءًا من النزل أو عالمًا آخر بالكامل. كانت الأرض تحت أقدامهم مهتزة وكأنها على وشك الانهيار، والجدران التي كانت تبدو قديمة في البداية بدأت تتحرك بطريقة غريبة. فجأة، توقف محمود وقال بصوت منخفض: "هل تسمع ذلك؟"
جابر استدار في حالة من الارتباك، فصوت همسات قادمة من أعماق الظلام كان يزداد وضوحًا، وكأن هناك أشخاصًا يتحدثون في مكان ما، لكن لا يوجد أحد حولهم. كانت كلماتهم غير مفهومة، فقط همسات غير واضحة تُشعرهما بأنهما ليسا وحيدين.
"يجب أن نسرع، شيء غير طبيعي يحدث هنا!" قال جابر وهو يشعر بجنون الخوف يتسلل إلى أعماق قلبه.
الفصل الثامن: مفترق الطرق
واصلوا السير عبر الممرات المظلمة، حتى وصلوا إلى مفترق طرق حيث تفرعت عدة مسارات. كل مسار بدا مختلفًا عن الآخر: أحدها كان يضيء ضوءًا خافتًا، والآخر كان مظلمًا تمامًا. المسار الثالث كان محاطًا بسقف منخفض، وكأنهما سيدخلان إلى مكان ضيق للغاية. نظر جابر إلى محمود وقال: "إلى أين نذهب؟"
محمود، الذي بدأ يشعر بالحيرة أيضًا، قال: "نحن بحاجة إلى الاختيار بسرعة. لا أعتقد أن هناك وقتًا لتأخير."
بينما كانا يقفان مترددين، فاجأهم صوت غريب، مثل صرير معدني، قادم من أحد الممرات الضيقة. بدأ جابر يشعر بأن الأرض تحت قدميه تتشقق، وكأن المكان نفسه يبتلعهما. لكن فجأة، انطلقت ضوء ساطع من أحد الممرات، حيث ظهر شخص غريب في الأفق.
الفصل التاسع: الحارس الغامض
تقدم الشخص الغريب نحوهما بسرعة، وكأن الظلام نفسه يحيط به. كان يرتدي رداءً أسود غامقًا يغطي جسده، ووجهه مغطى بقناع ذهبي مشوه. عند اقترابه منهما، قال بصوت غريب: "إذا كنتما تودان الخروج من هنا، يجب أن تجتازا الاختبار."
"أي اختبار؟" سأل محمود بسرعة، لكن الشخص الغريب تجاهل سؤاله وأشار إلى الممر المظلم أمامهما.
"اختيارك سيحدد مصيركما. إما أن تكونا جزءًا من السر الذي طالما سعى الجميع لاكتشافه، أو أن تكونا ضحايا له." ثم ابتسم ابتسامة غريبة، اختفت في الظلام.
جابر شعر بألم في رأسه، وكأن عقله بدأ ينهار من كثرة الأسئلة التي تملأه. لم يكن يملك خيارًا سوى المضي قدمًا في الممر المظلم، حيث كانت خطوتهما الأخيرة حاسمة.
الفصل العاشر: الحافة الأخيرة
مع كل خطوة كان الممر يزداد ضيقًا، حتى أصبح من المستحيل السير بشكل مستقيم. كان الظلام يحيط بهم من كل مكان، وكان الصوت الذي يسمعونه أكثر وضوحًا الآن: همسات مأساوية تأتي من أماكن بعيدة، وكأنها تحاول تحذيرهم من شيء ما.
ثم، فجأة، ظهرت أمامهم غرفة واسعة في نهايته. كانت الجدران مغطاة برسوم غريبة وحروف غير مفهومة، ووسط الغرفة كان يوجد صندوق معدني ضخم. كان يبدو قديمًا جدًا، وكأن الزمن نفسه توقف أمامه.
جابر شعر بأن قلبه يضرب بقوة في صدره، لكن محمود تقدم بسرعة نحوه، وقال: "هذا هو السر. يجب أن نفتح الصندوق."
ومع لمسة يد محمود على الصندوق، بدأت الأرض تهتز بشكل مخيف، وأضاءت الأنوار فجأة، ليكتشفوا أن الصندوق كان يحمل سرًا قديمًا تم إخفاؤه لأجيال. لكن بمجرد فتحه، انفجر الظلام المحيط بهما، وانهار الممر بأكمله. كان المكان يتغير بسرعة، وكأنهما قد دخلا عالمًا آخر.
الفصل الحادي عشر: النهاية المظلمة
جابر ومحمود سقطا في الظلام الحالك، وعيناهما لا تريان سوى دوامات من الأضواء والمشاهد الغريبة. فجأة، سمعا صوتًا عميقًا في الأفق يقول: "أهلاً بكما في المدينة التي لا تخرج منها... المدينة التي ستظل في ذاكرة كل من يدخلها."
ثم، اختفت أصواتهم، ليبقى المكان هادئًا تمامًا. لم يكن هناك أحد في الظلام سوى صدى صراخهما.
ما الذي سيحدث لجابر ومحمود في هذه المدينة الملعونة؟ هل ستظل المدينة تحتفظ بهما إلى الأبد، أم سيكتشفان السر الذي يربط هذا المكان بالعالم الآخر؟
الفصل الثاني عشر: اكتشاف السر
جابر ومحمود كانا غارقين في الظلام، وكأنهما دخلوا إلى عوالم غير مرئية. وبينما كان الصوت الغامض يتردد في أذنهما، بدأت جدران الغرفة تنفتح بشكل تدريجي، لتكشف عن مشهد غريب لا يُصدق. كانت الغرفة مليئة بصور قديمة وأوراق مكتوبة بلغات غريبة، وفي وسطها كان هناك تمثال ضخم لرجل عابس، عينيه مفتوحتين على مصراعيهما كما لو كان يراقب كل حركة لهما.
"ماذا يعني هذا؟" همس جابر، وهو يقترب من التمثال، عينيه تتنقل بين الأوراق.
أجاب محمود بصوت خافت: "يبدو أن هذه المدينة كانت تحتوي على أسرار قديمة. ربما كانوا يحمون شيئًا مهمًا."
بينما كانا يستعرضان الأوراق، وجد جابر رسالة قديمة مكتوبة بخط غريب، ولكنها كانت تحتوي على كلمات مألوفة: "المدينة محكومة بلعنة قديمة. من يدخلها لا يمكنه الخروج إلا بعد دفع ثمن غالي. ما تقدمه هو ما ستأخذه."
"لعنة؟" تساءل محمود بصوت منخفض، بينما شعر جابر بغصة في حلقه. "ماذا يعني هذا؟ هل نحن في خطر؟"
لكن قبل أن يتمكنا من التفكير أكثر، بدأ التمثال يتحرك بشكل مفاجئ، وعيناه تومضان بضوء أحمر. ثم، انفجرت الأضواء حولهم، وتم فتح باب خفي يقودهم إلى ممر طويل مظلم.
الفصل الثالث عشر: العودة إلى القرية
بعد أن نجحا في اجتياز الممر المظلم، وجد جابر ومحمود أنفسهما فجأة في مكان مألوف: كانت الشوارع الضيقة للقرية أمامهما. لكنهما لم يكونا متأكدين إذا كانا في نفس القرية أم في نسخة مختلفة عنها. كانت الأجواء مشوشة، والوقت يبدو وكأنهما سافرا فيه إلى نقطة ما بين الماضي والمستقبل.
"هل نحن هنا بالفعل؟" سأل جابر وهو ينظر حوله بدهشة.
"يبدو أن كل شيء عاد كما كان، لكننا لم نعد كما كنا." قال محمود وهو يشير إلى القرية. "لقد عادنا، ولكن هل هناك شيء مختلف؟"
تجولوا في أرجاء القرية، وعيناهما تبحثان عن أي ملامح تغيير. لكنها كانت كما هي، نفس الأزقة، نفس الوجوه التي يعرفونها، لكن مع شعور غريب بأن كل شيء في المكان يعكس شيئًا ضبابيًا. لم يكن هناك أي عمل يُعرض في الأفق، كانت الأبواب مغلقة، والمحال التجارية مغلقة كذلك.
الفصل الرابع عشر: لا عمل في الأفق
مرت الأيام وجابر ومحمود يحاولان إيجاد فرصة عمل في القرية. كان الناس في القرية مشغولين بمشاكلهم اليومية، ولم يكن هناك من يبدو مهتمًا بمساعدة أي شخص آخر.
"هل ترى؟ لا شيء تغير، حتى بعد كل ما مررنا به." قال جابر وهو يراقب الحياة التي تسير في القرية وكأنها في دائرة مغلقة. "لا يوجد عمل هنا... لا شيء سوى الأمل الكاذب."
محمود، الذي كان يشعر بالإحباط هو الآخر، قال: "ربما تكون هذه هي اللعنة التي تحدثوا عنها. المدينة أعطتنا السر، لكن لم تعطنا أي حل."
ورغم هذا الإحباط، قررا ألا يستسلما. "قد تكون القرية قديمة، وقد لا توجد فرص هنا، لكن نحن لا نملك سوى أنفسنا الآن. يجب أن نجد طريقنا رغم كل شيء."
الفصل الخامس عشر: القرار الأخير
في الأيام التالية، واصل جابر ومحمود محاولاتهما في القرية، يطرحان أسئلة على الأهالي، ويتحدثان مع كل من يمكن أن يساعدهما. لكن ما وجدا كان الإجابة الوحيدة: لا فرص عمل.
وفي صباح أحد الأيام، جلس جابر على حافة الطريق، مشغولًا بأفكاره، بينما محمود كان يتحدث إلى بعض القرويين. فجأة، شعر جابر بشيء غريب في داخله. لم يعد يخشى من المستقبل كما كان من قبل. قرر أن يعود إلى المدينة، رغم كل شيء، رغم اللعنة التي كانت تحيط بها. ربما كان السر الذي اكتشفاه قد منحهما القوة، ولكنهما كانا بحاجة إلى تجربة أخرى خارج هذه القرية.
وقبل أن يتحدث مع محمود، سمع صوتًا هادئًا من خلفه: "المدينة ليست كما تبدو... أنتم الآن محكومون بالاختيار. إما أن تستسلموا، أو تسيروا في الطريق الذي اخترتموه."
الفصل السادس عشر: السعي نحو المستقبل
قرر جابر ومحمود أن يسلكا طريقًا جديدًا، وأن لا يتركا قيد القرية الصغيرة. قد تكون الفرص خارج القرية، أو ربما سيكتشفان شيئًا أكثر من اللعنة التي طاردتهما في المدينة.
لكن، مهما كان الطريق الذي اختاراه، كان على جابر أن يواجه الحقيقة: أحيانًا، لا يكمن الحل في العثور على عمل، بل في إيجاد طريقك الخاص، الذي يخرجك من دائرة الخوف والفقر.
الفصل السابع عشر: الرحيل المفاجئ
كان الصباح قد أطل على القرية بوجهه الباهت، والأفق يُغطيه ضباب خفيف. جلس جابر على الحافة المقابلة لمنزله، يتأمل الأفق بعينين مليئتين بالقلق. كان يشعر بشيء غريب يحترق في قلبه، شيء يدفعه للرحيل، للابتعاد عن هذا المكان الذي عرفه طيلة سنوات عمره.
محمود كان قد اختفى، لم يعد يظهر منذ الصباح. جابر كان يعلم أنه لم يعد قادرًا على البقاء هنا، وأن عليه أن يواجه المجهول. قرر في تلك اللحظة أن يترك وراءه كل شيء، رغم الخوف الذي كان يلتهمه. لم يكن هناك شيء آخر ليخسره، سوى حياته البسيطة، لكنه كان يدرك أن البقاء في هذا الوضع لن يكون أفضل من مغادرة القرية.
"لن أعود إلى الوراء... أنا لا أملك خيارًا آخر." همس لنفسه، وهو ينهض ويجمع أغراضه البسيطة في حقيبته الصغيرة.
أخذ جابر خطوة أخرى نحو الباب الخشبي المهدم، وعيناه تراقبان السماء التي بدأت تتغير تدريجيًا، وكأنها تُعد له الطريق الجديد. لم يشعر بالندم، لكنه شعر بوخزة ألم داخل قلبه. هل كان القرار صحيحًا؟ هل سيتحمل مصيرًا مجهولًا، أم أن المغامرة ستقوده إلى شيء أعظم؟
لكن فجأة، انتبه إلى شيء غريب. وجد ورقة صغيرة تحت حجر على الأرض. اقترب منها ببطء، وفتحها بحذر، لتكتشف يداه أنها كانت نفس الكتابة الغريبة التي رآها في المدينة.
"لا تبتعد عن الطريق الذي اخترته... لأنك لن تجد عودة." كانت الكلمات مرعبة ومليئة بالغموض.
"أيعقل أن هذا تحذير آخر؟" تساءل جابر بصوت خافت، بينما شعر بشيء ثقيل على صدره. لكن رغم ذلك، أخذ الورقة في جيبه، وقرر المضي قدمًا.
الفصل الثامن عشر: التوجه إلى المجهول
ترك جابر القرية خلفه، وبدأ في السير على الطريق الوعر الذي يلتف بين التلال والجبال. كانت كل خطوة يخطوها تُشعره بالوحدة، كأن العالم بأسره قد تركه خلفه. لم يكن لديه وجهة واضحة، ولا خارطة تقوده إلى الأمان. كانت قدماه تأخذانه إلى المجهول، وهو يعلم أنه قد يكون ذلك الخيار الوحيد.
وكلما ابتعد عن القرية، كان يشعر ببرودة الليل تسري في جسده. وفي عمق قلبه، كان يعتقد أن هناك شيئًا غير طبيعي ينتظره في الطريق. لكن ما هو؟ وهل سيجده أم أن هناك شيء أكبر من ذلك؟ كان هذا هو السؤال الذي يطارده.
مرت الأيام ثقيلة، وكانت أصوات الرياح التي تعصف به من حوله تزيد من شعوره بالعزلة والخوف. ولكن رغم ذلك، كان عزمه على المضي في طريقه ثابتًا. لم يعد يهتم بالأجوبة، بقدر ما كان يركز على أن يظل حيًا في هذا العالم الذي بدا وكأنه خالٍ من أي مساعدة.
الفصل التاسع عشر: الضوء في آخر النفق
بعد عدة أيام من السفر، بدأ جابر يشعر بإرهاق شديد، جسده مرهق وعقله متعب. كانت الطرق التي يسلكها تزداد صعوبة، والظلام كان يملأ السماء بشكل يجعل من رؤية أي شيء أمرًا شبه مستحيل.
لكن في لحظة معينة، وفي حين كان يخطو خطواته الأخيرة في وادٍ عميق، لاحظ ضوءًا صغيرًا في الأفق. كان خافتًا، لكنه بدا كإشارة أمل في هذا الظلام الكثيف. حاول أن يجمع قواه المتبقية ويتجه نحو الضوء.
ومع اقترابه، اكتشف أنه ليس مجرد ضوء طبيعي، بل كان نافذة صغيرة من منزل مهدم. اقترب منه بحذر، وعيناه تتأملان الأفق من حوله. لكن ما إن وصل إلى باب المنزل المتهدم، حتى شعر بشيء غريب يسكن المكان، وكأن هناك شخصًا كان ينتظره.
"هل وصلنا إلى المكان الذي كان يترقبنا فيه القدر؟" همس جابر، وهو يدفع الباب ببطء، مستعدًا لما قد يواجهه وراءه.
الفصل العشرون: البيت المهدم والسر المفقود
دخل جابر بحذر إلى الداخل، والظلام يحيط بالمكان، لكن هناك ضوء خافت ينبعث من زاوية الغرفة. كان المكان يبدو مهدمًا، إلا أن هناك شيئًا غريبًا في الجو. كان الهواء ثقيلًا وكأن جدران المكان تحتفظ بأسرار قديمة. اقترب جابر من الضوء، وكل خطوة كان يأخذها كانت تزداد ثقلاً على قلبه.
فجأة، سمع صوتًا خافتًا يأتي من الزاوية المظلمة. تجمد في مكانه، وعيناه تتحركان في كل الاتجاهات بحثًا عن مصدر الصوت. لكن ما رآه جعله يتنفس الصعداء. كان شخصًا مسنًا، يجلس على مقعد خشبي قديم، يحدق به بنظرات مليئة بالدهشة وكأنها تنتظره.
"من أنت؟" سأل جابر بصوت مرتجف، بينما هو يخطو نحوه بحذر.
أجاب الرجل بصوت خافت، وكأن الكلمات كانت تخرج بصعوبة من بين شفتيه: "لقد كنت أنتظر قدومك... لا وقت لتضيعه الآن، جابر. إذا كنت تسعى لمعرفة الحقيقة، فهناك فقط طريق واحد أمامك."
جابر، الذي كان في حيرة من أمره، شعر بشيء غريب يزحف في جسده، وكأن هذا الرجل يعرفه، أو يعرف شيئًا عنه لم يكن ليعلمه في السابق. قبل أن يلتقط أنفاسه، شعر بشيء ثقيل يسحب قلبه إلى الأسفل، وكأن الأرض تحت قدميه بدأت تهتز.
فجأة، فتح الباب الخلفي للمنزل بشدة، وسُمع صوت أقدام مسرعة. كان شخصان يقتربان، وعيون جابر تعكف على رؤية ملامحهم. لم يتمكن من التحرك أو الهروب، فقد شعر فجأة بشيء يلتف حول عنقه ويشدّه إلى الخلف.
"ماذا تفعلون؟" صرخ جابر محاولًا التحرر، لكن الأيدي التي أمسكت به كانت قوية جدًا، والألم كان يسيطر عليه مع كل محاولة للتحرر. قبل أن يتمكن من أي مقاومة أخرى، شعر بشيء غريب يدخل جسده، وعينيه تغلق تدريجيًا.
الفصل الواحد والعشرون: من القرية إلى العاصمة
استفاق جابر على صوت محرك سيارة يهدر في أذنه، وعيونه مفتوحة جزئيًا لتستقبل الضوء الساطع. كان رأسه يؤلمه بشدة، وشعر بثقل في جسده كما لو أنه كان مخدّرًا. بدأ يفتح عينيه تدريجيًا، ليكتشف أنه في مكان غير الذي كان فيه.
كانت السيارة تسير بسرعة عبر طريق مظلم، ومع كل دقيقة كان يزداد شعور الغموض حوله. كل ما كان يستطيع رؤيته هو الظلال المتنقلة على الجانبين، وعيناه تتأملان الأفق باحثتين عن أي شيء يمكن أن يكشف له عن مكانه.
لكن فجأة، سمع صوتًا ناعمًا من خلفه، يشبه همسات الرياح في الليل. "استفاق أخيرًا، أعتقد أننا في العاصمة الآن." قال الصوت بنبرة هادئة، مع قليل من السخرية في لهجته.
التفت جابر خلفه، ليرى شخصًا يرتدي ملابس أنيقة، وجهه غير مألوف له. كان يبتسم ابتسامة غامضة، لا توحي بأي من المشاعر البشرية العادية.
"من أنت؟ أين نحن؟" سأل جابر بصوت مرتجف، وهو يحاول التحرر من القيود التي كانت تلتف حول معصميه.
"أنت في مكان لن تتمكن من الهروب منه بسهولة." قال الرجل، وعيناه تتلألأ في الظلام. "نحن في العاصمة، وفي مكان أكثر أهمية مما كنت تتخيله."
جابر كان في حالة من الهلع، لا يفهم ما يحدث. "لكن لماذا؟ لماذا أخذتموني من هناك؟"
ابتسم الرجل مرة أخرى، وقال: "كل شيء له سبب، جابر. مكانك هنا لم يعد مجرد محض صدفة. كنت أبحث عنك منذ زمن طويل. أنت مفتاح لشيء أكبر، ولعالم لا يمكن لأمثالك أن يتصوروه."
بدا كل شيء غامضًا، وكان جابر يشعر وكأن قلبه سيتوقف. لماذا هو هنا؟ ماذا يريد هؤلاء منه؟ وما الذي ينتظره في هذه العاصمة التي تبدو كأنها عالم موازٍ، عميق في سرٍّ لم يكشفه بعد؟
توقف السيارة فجأة، وفتح الباب بهدوء. كان الظلام يحيط بالمكان، وداخل العاصمة التي دخلها جابر لأول مرة، كانت هنالك معالم من الرفاهية والظلال المظلمة، وكأنها تشهد على أسرار عميقة.
الفصل الثاني والعشرون: بين الخوف والدهشة
كان جابر يجلس في المقعد الخلفي للسيارة، مكبّل اليدين وموثقًا في مكانه، لكنه شعر بشيء غريب يلتف حول قلبه. المدينة التي كانت بالنسبة له مجرد اسم على الخريطة، أصبحت الآن واقعًا أمامه. كان يراقب الشوارع بأعين مليئة بالدهشة، وبينما كانت السيارة تنساب بهدوء عبر شوارع المدينة اللامعة، كانت مشاعره تتأرجح بين الخوف من المجهول ولذة الانبهار بما يراه.
كانت ناطحات السحاب تتناثر على جانبي الطريق، وأضواء المدينة كانت تومض وكأنها تعكس آلاف الأمل والأحلام. كل زاوية، كل شارع، كل مبنى كان يحمل في طياته قصصًا وأسرارًا لم يكن جابر يتخيلها. كيف يعقل أن يكون شخص مثل جابر، الذي قضى معظم حياته بين جدران قريته القديمة، قد وصل إلى هذه المدينة المتقدمة؟
شعر بشيء غريب في صدره، وكان قلبه ينبض بسرعة أكبر. لكنه كان لا يستطيع إخفاء إعجابه بما يراه. رغم حالته المكبلة، كانت عيناه تتحركان بسرعة من مشهد إلى آخر، من مبنى إلى آخر، من زاوية إلى زاوية. كل شيء هنا كان يعكس التقدم والحداثة. السيارات الفاخرة تسير بجانبه، والمحال التجارية اللامعة مليئة بالمنتجات التي لم يرَ مثلها من قبل.
"هل ترى كل هذا، جابر؟" قال الرجل الذي كان يرافقه في المقعد الأمامي، صوته هادئ وكأنما يقرأ أفكار جابر. "هذه المدينة هي كل شيء يمكنك أن تحلم به. العمل هنا، المال هنا، الحياة التي كانت مستحيلة بالنسبة لك أصبحت الآن في متناول يدك. فقط إذا تعلمت كيف تتحكم في مفاتيح هذه المدينة."
نظرت جابر إلى الرجل في المقعد الأمامي، وهو يحاول أن يقرأ تعابير وجهه. لم يكن لديه الكثير من الخيارات. كانت يداه مشدودة، وعيناه مليئتان بالحيرة. ولكنه لم يستطع إخفاء الفضول الذي بدأ يتسلل إليه.
ثم توقفت السيارة فجأة، وفتح السائق الباب. شعر جابر بشيء غريب في الجو، وكأن اللحظة كانت حاسمة، كما لو أن هذه اللحظة ستغير حياته إلى الأبد.
"اتبعني." قال الرجل، وهو ينزل من السيارة. كان نبرته مشوبة بالغموض، وكان جابر يعلم أن ما سيحدث بعد ذلك قد يكون بداية شيء مختلف تمامًا.
في تلك اللحظة، أخذ جابر نفسًا عميقًا وهو ينزل من السيارة، يحاول جاهداً أن يسيطر على توتره. قلبه كان يخفق بسرعة، ولكن قدماه أخذته إلى المكان المجهول.
كانت هذه أول مرة في حياته التي يشعر فيها أن الخوف لا يعني بالضرورة الهروب، بل يعني اكتشافًا غير متوقع.
الفصل الثالث والعشرون: العطف وراء الغموض
عندما نزل جابر من السيارة، كانت تلك اللحظة أكثر غرابة مما توقع. عيون المدينة التي أضاءها الأمل والإغراء، تحولت في لحظة إلى عيون متوجسة من مصير غامض. ومع كل خطوة كان يخطوها، كان شعور غريب يتسلل إلى قلبه، شعور بمزيج من الأمل والخوف. لكنه لم يكن يتوقع أبدًا أن الشخص الذي يقوده إلى هذا الطريق المظلم، هو في الحقيقة شخص سيغير كل شيء في حياته.
"أنت لا تعرفني، ولكنني أعرفك جيدًا، جابر."
قال الرجل الذي كان يقوده، وهو ينظر إلى جابر بابتسامة دافئة، رغم الجاذبية الغامضة التي تحيط به. كان وجهه مشرقًا، وتبدو عليه آثار الحكمة والتجارب العميقة، لكنه لم يكن أحدًا من أولئك الذين يبحثون عن الشهرة أو الجاه. كان هناك شيء في عيناه، شيء يبعث على الاطمئنان، كأنه يحمل في قلبه رحمة لم يستطع أي شخص آخر أن يفهمها.
"أنا مروان." قال الرجل بينما كان يقوده عبر أحد الأحياء الفاخرة. "وهذا المكان الذي نحن فيه، هو ليس ما تعتقد. إنه مركز فاعلية المساعدة التي أسستها منذ سنوات. هذا هو عملي، جابر. وليس الهدف منه المال أو الشهرة."
جابر كان في حالة من الدهشة الممزوجة بالحيرة. كيف لهذا الرجل أن يكون صاحب كل هذه الثروات، وهو يتحدث عن عمله كمن يروي قصة قديمة؟ بدأ جابر يحاول فك طلاسم تلك الكلمات، وكلما تقدم بهما، شعر بأن تلك المدينة التي كانت في ذهنه صورة من الحياة السريعة والمجنونة، قد تحتوي على شيء مختلف.
"أنا أبحث عن الأشخاص الذين لا يملكون شيء، مثلما كنت أنت في يوم من الأيام. المشردين في الشوارع، العائلات الفقيرة في القرى البعيدة، هؤلاء هم من أبحث عنهم، لأنني أؤمن بأن أي شخص، مهما كان وضعه، يستحق فرصة جديدة في الحياة."
كانت تلك الكلمات تجر جابر إلى عالم لم يتخيله من قبل. مروان كان رجلًا فاضلًا في قلبه، لا يسعى إلى الثروة أو الجاه، بل كان يقضي أيامه في مساعدة من لا أحد يهتم بهم. كان يذهب شخصيًا إلى المدن والقرى، يحمل معه الأمل لأولئك الذين يظن العالم أنهم لا شيء.
"ولكن ماذا عنك؟" قال جابر بتردد. "ماذا تريد مني؟"
مروان ابتسم ابتسامة مليئة بالحكمة وقال: "أريدك أن تكون جزءًا من هذه الرحلة. لديك ما يميزك، جابر. حياتك، رغم صعوبتها، تعلمت منها الكثير. هذه المدينة، كما تراها، قد تكون مجرد بداية. أريدك أن ترى كيف يمكننا تغيير حياة أولئك الذين يحتاجون إلى فرصة."
لحظات من الصمت مرّت بينهما، بينما كان جابر يسترجع حياته في قريته، وفجأة، اكتشف أن الفقر لا يقتصر على المال، بل يمتد إلى اليأس الذي يقتل الأمل. شعر فجأة أن هذه الرحلة، التي بدأها بشكوك كثيرة، قد تكون أكثر من مجرد محاولة للهروب من ماضيه، بل قد تكون فرصة لبناء حياة جديدة، حياة مليئة بالمعنى.
"سأساعدك، مروان. ولكن هل يمكنني حقًا أن أكون جزءًا من هذه الرحلة؟"
مروان وضع يده على كتف جابر قائلاً: "أنت جزء من هذا، جابر. الآن، دعني أريك عالمًا آخر. عالم لا تحكمه المادة، بل العطاء."
مع تلك الكلمات، بدأ جابر يشعر بشيء لم يشعر به من قبل؛ شعور بأنه قد وجد مكانًا له في هذا العالم، في هذا الطريق المظلم الذي لم يكن في البداية سوى خوف. لكن الآن، ومع مروان، بدأ يرى الضوء في نهايته.
ولكن ما لم يكن يعلمه جابر، هو أن هذا الطريق لن يكون سهلاً، بل سيكون مليئًا بالتحديات، وسيتطلب منه أن يواجه أعمق مخاوفه. ولكن مع كل خطوة، سيكتشف سرًا آخر من أسرار المدينة، وقد يجد نفسه في قلب معركة لا تتعلق بالمال، بل بالكرامة والإنسانية.
الفصل الرابع والعشرون: تحول جابر
مرت الأيام سريعًا، وكان جابر يعمل في مصنع مروان بكل جدية واهتمام. لم يكن المصنع مجرد مكان للعمل، بل أصبح بالنسبة له مدرسة تعلم فيها الكثير عن الحياة، عن الإصرار، وعن الأمل. مروان لم يكن فقط صاحب العمل، بل كان معلمًا وموجهًا حقيقيًا له، يمنحه الثقة ويعلمه كيف يعبر عن نفسه.
في البداية، كان جابر يشعر وكأن الأمور تحدث بسرعة كبيرة. ولكن مع مرور الوقت، بدأ يشعر بالراحة، وكأن هذه المدينة التي كانت غريبة بالنسبة له أصبحت جزءًا من حياته. عمله في المصنع كان شاقًا، لكنه لم يكن يمانع. كان يمرّ بكل مرحلة بعيون مليئة بالترقب، يحاول فهم كل شيء. كان المصنع يعجّ بالآلات الحديثة والأصوات التي تشبه اللحن المتسلسل، وكان جابر ينقض على كل فرصة لتعلم شيء جديد.
في أولى أيامه في المصنع، علمه أحد العمال الأساسيات عن كيفية التعامل مع الآلات. ومع مرور الوقت، بدأ يكتسب المهارات الفنية التي كانت ترفع من تقديره لدى زملائه. كانت يديه تتحرك بسرعة، تعكس صبره وتفانيه في إتمام عمله، وحين رأى مروان تقدم جابر، كان يبتسم في سرّه، فهو يعرف أن هذا الشاب لا يزال يحمل في قلبه طموحًا لم يتحقق بعد.
"جابر، تعلم القراءة والكتابة. ستحتاج إليها في حياتك." كانت تلك كلمات مروان التي بقيت تدور في ذهن جابر لأيام طويلة. كان في البداية مترددًا، فهو لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة، ولكن بتشجيع مروان، بدأ في تعلم الأبجدية من خلال ورش تدريبية صغيرة كان مروان قد خصصها للعمال.
كان جابر يجد نفسه يتوقف أحيانًا وهو يحاول تشكيل الحروف الأولى على الورقة، لكنه سرعان ما يدرك أنه كلما أصرّ على التعلم، كلما أصبحت الأمور أسهل. ببطء، بدأ يقرأ الجمل الصغيرة ثم الكبيرة، وتعلم كيفية الكتابة بشكل أكثر دقة. كانت تلك اللحظات مليئة بالأمل، حيث كان يضع أولى خطواته نحو عالم جديد، عالم كان بعيدًا عنه في الماضي.
وفي الوقت نفسه، بدأت تظهر عليه علامات التغيير. مظهره بدأ يتحسن شيئًا فشيئًا، فقد أصبحت ملابسه أكثر أناقة بعد أن أصبح لديه دخل ثابت. كان يشعر بالفخر عندما ينظر في المرآة، يرى في عينيه شخصًا لم يكن يعرفه من قبل. شخص أكثر ثقة، وأكثر قدرة على مواجهة الحياة. بدأ يهتم بصحته، ويتبنى عادات جيدة.
وبينما كان يعمل في المصنع، كان يحظى باحترام زملائه. جميعهم كانوا يشيدون بإتقانه للعمل وحماسه له. كان يبدو كأن التحديات التي واجهها في الماضي قد زادت من عزيمته، فأصبح أكثر تفوقًا. وكان مروان يراقب كل هذا بتقدير، وهو يعلم أن جابر ليس مجرد عامل آخر، بل شخص سيحقق المزيد.
في أحد الأيام، وبينما كان جابر يجلس في مكتبه البسيط في المصنع بعد يوم طويل من العمل، استلم رسالة من مروان. "جابر، اليوم الذي انتظرته طويلاً قد أتى. سنرتب لك فرصة جديدة لتكون جزءًا من الفريق الإداري. لن تظل عاملًا بعد الآن، بل ستكون شخصًا يدير الأمور."
كانت تلك الكلمات بمثابة الحافز الكبير الذي انتظره جابر. كان يعلم أن هذه الفرصة ليست مجرد تغيير في عمله، بل تغيير في حياته ككل. وقد أصبح الآن قادرًا على مواجهة المجهول بثقة، حيث كان يعلم أنه رغم كل الصعوبات التي مر بها، فإن الأمل دائمًا موجود، وأن المستقبل يمكن أن يكون أفضل من الماضي.
"لا شيء مستحيل." قالها جابر لنفسه وهو يقرأ الرسالة، وهو يتأمل في التغيير الذي حدث في حياته، التغيير الذي بدأه بخطوات صغيرة نحو مجهول كان يبدو مستحيلًا.
الفصل الخامس والعشرون: العودة إلى الماضي
كان جابر في مكتبه الفخم في المصنع، يراقب المنظر من نافذته الكبيرة التي تطل على المدينة المزدحمة. في تلك اللحظة، لم تكن أصوات الآلات أو ضجيج الحياة الحديثة هي ما كان يشغل باله، بل كانت الأفكار تعود به إلى أيامه الأولى في تلك القرية الصغيرة التي لا يُذكر اسمها سوى في زوايا الذاكرة البعيدة.
كان قد مر وقت طويل منذ أن تركها وراءه. لكن في لحظات هدوء كهذه، كانت صورة تلك القرية البسيطة، المنازل المتواضعة والشوارع الضيقة التي يعرفها كما يعرف قلبه، تعود لتغزو عقله. كان لا يزال يتذكر كيف كانت تلك الأيام مليئة بالضيق، كيف كان يواجه الحياة وكأنها خصم لا يرحم. لكنه الآن، في هذا المكان الجديد، بعدما أصبح من أصحاب المكانة، كان يشعر بشيء من الغربة.
"هل أنا سعيد؟" سأل نفسه بصوت منخفض وهو ينظر إلى المكتب أمامه. نعم، كان المال والنجاح قد غيّرا الكثير في حياته، لكنه لا يستطيع أن ينكر أن شيئًا كان ينقصه. كانت القريّة الصغيرة، على الرغم من فقرها، تحمل في طياتها مشاعر دافئة، كانت تحمل ضحكات كانت تمتلئ بها الساحات في الأيام القليلة التي كانوا يخرجون فيها للاحتفال. وكان محمود، صديقه المقرب الذي خسر كل شيء معه، هو الشخص الذي كان له الفضل في دفعه نحو مغامرة غير متوقعة.
"محمود... أين أنت الآن؟"
كان جابر يتذكر كيف كانت ضحكات محمود تُشعره بالأمان، حتى في أصعب اللحظات. كان محمود ذلك الصديق الذي لا يتوانى عن مساعدته في وقت الحاجة. تذكر أول يوم ترك فيه جابر القرية، كيف كان محمود هو الشخص الذي شجعه، هو من أقنعه بفرصة العمل في المدينة المجاورة. لكن ماذا حدث له بعد تلك الرحلة؟ هل ضاع كما ضاع الكثيرون؟ أم أنه لا يزال في تلك القرية البعيدة، يكافح مثلما كان يفعل دائمًا؟
أغمض جابر عينيه للحظة، وأحس بشيء من الحزن يسيطر عليه. المال والمكانة في هذا العالم المادي لا يمكن أن يعوّضا عن رفقاء درب كانوا جزءًا من نفسه. ولكنه كان يعرف أن العودة إلى تلك الأيام، العودة إلى ذلك الماضي الذي لا يمكن أن يعود، لن تمنحه سوى المزيد من الأسى.
وفي تلك اللحظة، قرر جابر أنه لا يمكن أن ينسى محمود ولا القرية. قرر أن يذهب إليها، ليبحث عن صديقه، ليحاول أن يعيد بعضًا من الجميل الذي فقده. "ليس المال وحده ما يهم، بل الأشخاص الذين كانوا معنا في كل خطوة."
أخذ هاتفه المحمول وأرسل رسالة إلى مروان يطلب منه إجازة قصيرة. كانت تلك الرسالة أول خطوة نحو العودة إلى شيء كان قد نسيه في غمرة النجاح. وفي قلبه كان يعلم أن هذا القرار ربما لا يغير الكثير في حياته، لكنه سيعطيه شيئًا كان قد فقده في زحمة الدنيا.
الفصل السادس والعشرون: رسالة الغائب
عاد جابر إلى القرية التي تركها منذ سنوات، قلبه يملؤه الحنين، لكنه كان يحمل في صدره قلقًا غير مريح. كان يتمنى أن يجد محمود هناك، صديقه القديم، الرجل الذي كان بمثابة الأخ له في تلك الأيام الصعبة. لكنه لم يكن مستعدًا لما سيكتشفه.
سار جابر بخطى بطيئة عبر الأزقة الضيقة التي اعتاد المشي فيها، متوقفًا بين الحين والآخر ليسترجع ذكرياته مع محمود. كان يتوقع أن يراه جالسًا على الحافة القديمة للمقهى، يبتسم ابتسامةً ساخرة، ويسأله عن مغامراته في المدينة. لكنه حين وصل إلى الساحة الصغيرة في قلب القرية، شعر بشيء غريب في الجو.
اقترب من أحد كبار السن في القرية، وسأله عن محمود. كانت نظرة الرجل الذي أجابه ثقيلة، مليئة بالحزن، وكأن السنين قد أضافت على وجهه عبئًا ثقيلًا. "محمود... محمود رحل عنّا يا جابر. رحل بسبب الجوع، والبحث المستمر عن لقمة العيش. كان يذهب كل يوم من بيت إلى بيت، عسى أن يجد ما يطعم به نفسه، لكنه لم يعد يعود. توفي قبل أشهر قليلة."
شعر جابر وكأن الأرض قد اختفت من تحت قدميه. كانت تلك اللحظة التي حلم بتجنبها طوال سنواته، حين يخبره أحدهم أن صديقه قد رحل. كان يعلم أن الحياة في تلك القرية قاسية، ولكن لم يكن يتخيل يومًا أن يرحل محمود بهذه الطريقة، دون أن يستطيع حتى العثور على الكرامة التي يستحقها.
"ولكن... هل ترك شيئًا؟ هل ترك رسالة؟" همس جابر بصوت مرتجف، وهو لا يستطيع تصديق ما سمعه.
أجاب الرجل العجوز بصوت منخفض: "نعم، ترك رسالة لك. كان يكتب لك دائمًا، يذكر فيها كيف كان يتمنى أن يراك يومًا. لم يفتحها أحد. كنا ننتظر عودتك، لعلّك تفتحها... ربما تكون آخر رسالة كتبها لمحبوبه."
أخذ جابر نفسًا عميقًا، وأخذ الرسالة التي كانت مخبأة في صندوق قديم داخل منزل أحد جيرانه. كانت الرسالة قديمة، الورقة اصفرّت من الزمن، وكأنها تحمل في طياتها أوجاع سنوات من الشقاء. فتح جابر الرسالة بيدين مرتجفتين، وبدأ يقرأ كلمات صديقه الأخير.
"جابر، صديقي العزيز، أعلم أنك في مكان بعيد الآن، حيث الرفاهية والراحة، ولكن قلبي لا يزال معك هنا في هذا المكان الذي لا يرحم. لقد حاولت طوال الأيام الماضية أن أجد شيئًا يعينني، ولكن الحياة لم تكن في صفي. كنت أبحث عنك في كل زاوية، وأنتظر لحظة عودتك، كي نعود كما كنا، معًا. أرجو أن تكون سعيدًا، وأن تتذكرني في يوم من الأيام. إن لم أكن قد وجدت شيئًا هنا، فقد وجدت شيئًا أكبر: فكرة أنني سأتركك وأنا راضٍ. لا تندم على أي شيء، يا صديقي. عش حياتك كما تشاء، ولكن تذكر أن في قلبك مكانًا صغيرًا لهذه القرية، ولن يمحيها الزمن. محمود."
وقف جابر صامتًا، وهو يقرأ الرسالة مرارًا وتكرارًا. كانت الكلمات تتردد في أذنه، وكأنها تحمل ألماً أكبر من الكلمات نفسها. "لقد تركتني يا محمود... وتركتني وحدي في هذا العالم الذي تغير كثيرًا."
دمعت عيون جابر، وعينيه ثابتتان على الرسالة. كان يعلم أن هذه الكلمات، التي كتبها صديقه، ستكون آخر ما يذكره به. كانت تلك الكلمات تعبيرًا عن محبة كانت تمزق قلبه، وتجعله يشعر أنه خسر جزءًا من نفسه في هذا الطريق الذي سلكه بعيدًا عن قريته.
سار جابر ببطء نحو قبر محمود، هناك حيث استراح صديقه للأبد. جلس أمامه، متأملًا في الأرض التي ضمته. "كنت أعتقد أن المال والمكانة يمكن أن يعطيني ما أحتاجه، لكنني الآن أعرف أن الحياة الحقيقية كانت هنا، معك، ومع الناس الذين كانوا يسيرون بجانبي."
ثم نظر إلى السماء، وكأن روح محمود هناك، تراقب كل شيء. "لن أنسى أبدًا، يا محمود. سأظل أذكرك في كل خطوة أخطوها."
وترك جابر القرية بعد أن ألقى نظرة أخيرة على قبر صديقه، وهو يعلم أن الرحلة التي بدأها في تلك القرية لم تكن مجرد بحث عن مكان أفضل، بل كانت رحلة لتقدير قيمة الأشياء التي كانت بالفعل تستحق أكثر من أي شيء آخر.