أوراق لم تُكتب بعد
الفصل الأول: المدينة الباردة
في أعماق المدينة الباردة، حيث تمتزج الأضواء الباهتة بضباب الشوارع، كان يعيش "إلياس"، رجلٌ يحمل على كاهله ثقل الزمن والأسئلة التي لا إجابة لها. كان يسير كل ليلة في الأزقة الصامتة، يبحث عن معنى لحياته التي تشبه ساعة رملية تساقطت حباتها دون اكتراث.
كانت المدينة تحمل في زواياها أسرارًا دفينة، أناسًا يركضون بلا هدف، أرواحًا تائهة تبحث عن خلاصها. وكان إلياس، كغيره، مجرد ظل بين هذه الظلال، يراقب الحياة دون أن يكون جزءًا منها. بيديه المتجمدتين كان يضم معطفه البالي إلى صدره، محاولًا دفع البرد الذي تسلل إلى عظامه كما تسللت الوحدة إلى قلبه.
الفصل الثاني: ظل في الليل
كان إلياس موظفًا بسيطًا في إحدى المكتبات العتيقة، يبيع الكتب التي لا يقرأها أحد، ويشاهد الغبار وهو يستقر على عناوينها المنسية. في داخله، كان يدرك أن مصيره ليس سوى انعكاسٍ لهذه الكتب التي تقبع على الرفوف، تنتظر قارئًا لن يأتي. كل يومٍ كان يمر عليه كأنه تكرارٌ مرهق ليومٍ سبقه، حتى بات الزمن لديه دائرة مغلقة لا يمكن الخروج منها.
لكن في إحدى الليالي، وبينما كان يغلق باب المكتبة، لمح على الرصيف المقابل رجلاً يرتدي معطفًا أسود طويلًا، واقفًا بلا حراك. كانت ملامحه غير واضحة، لكنه شعر وكأن عينيه تغوصان في أعماقه، كأنهما مرآة لروحه المرهقة. تجاهل إلياس الأمر ومضى في طريقه، لكن الغريب ظل في ذاكرته، وكأن حضوره كان رسالة غير مفهومة.
ومع تكرار المشهد لعدة ليالٍ، بدأ القلق يتسلل إلى صدره، هل كان هذا الرجل حقيقيًا، أم مجرد وهم آخر من أوهام ذهنه المتعب؟ حاول التحقق أكثر، لكنه في كل مرة كان يجد أن الرجل يختفي بمجرد أن يرمش بعينيه.
الفصل الثالث: لقاء غامض
مرت أيام، وكل ليلة كان إلياس يرى الرجل في نفس المكان، واقفًا كما لو كان ظلًا لا يزول. وأخيرًا، لم يستطع مقاومة فضوله فتوجه نحوه وسأله بصوتٍ مرتجف: "لماذا تقف هنا كل ليلة؟"
ابتسم الرجل ابتسامة خفيفة وقال: "أنا أنتظر الإجابة."
تراجع إلياس خطوة للوراء، شعر بالريبة. "إجابة؟ عن ماذا؟"
أدار الرجل رأسه ببطء وقال: "الإجابة التي تبحث عنها أنت أيضًا، يا إلياس."
كانت هذه الكلمات كالصاعقة في أذنيه. كيف يعرف اسمه؟ من هو؟ ولماذا يشعر وكأنه يحدق في نسخة أقدم من نفسه؟
الفصل الرابع: الدعوة الغامضة
في إحدى الأمسيات، بينما كان جالسًا وحيدًا في غرفته المتواضعة، سمع طرقًا خفيفًا على النافذة. نهض ببطء وفتحها، ليجد ورقة مطوية على عتبتها. فتحها بيدين مرتعشتين وقرأ كلمات بسيطة: "المكتبة، منتصف الليل."
عندما دقت عقارب الساعة الثانية عشرة، وجد إلياس نفسه واقفًا أمام باب المكتبة. فتحه بخوف، فوجد الرجل ذو المعطف الأسود جالسًا على كرسي في الزاوية المظلمة. أمامه، كان هناك كتاب مفتوح، بداخله صفحات بيضاء.
قال الرجل بهدوء: "هذا كتابك، إلياس. حياتك مكتوبة فيه، لكنه لم يُكمل بعد."
الفصل الخامس: الفراغ الأبيض
في تلك اللحظة، بدأ العالم من حوله يتلاشى. وجد نفسه في فراغٍ أبيض، لا شيء فيه سوى الكتاب المفتوح. وعندما نظر إلى الصفحات، رأى ذكرياته مكتوبة أمامه، كل لحظة عاشها، كل شعورٍ شعر به. لكن عندما قلب الصفحات نحو المستقبل، لم يجد سوى الفراغ.
"هل هذا يعني أنني سأموت قريبًا؟" همس بصوتٍ خائف.
ظهر الرجل بجانبه فجأة وقال: "هذا يعني أنك لم تعش بعد."
بدأت الكلمات تتلاشى، وأصبح الفراغ يبتلعه شيئًا فشيئًا. شعر إلياس وكأن روحه تتمزق، وكأن حياته كانت مجرد سراب.
لكنه هذه المرة شعر أيضًا بشيء آخر... شعور غامض بالرغبة في التغيير، في ملء هذا الفراغ بنفسه قبل أن يبتلعه.
الفصل السادس: استيقاظ جديد
استيقظ فجأة في سريره، يتنفس بصعوبة. نظر إلى ساعته، كانت الثالثة فجرًا. هل كان حلمًا؟ نهض مسرعًا وركض إلى المكتبة، لكنه وجدها مغلقة كما كانت دائمًا. لا أثر للرجل، ولا أثر للكتاب.
لكن عندما عاد إلى غرفته، وجد الورقة التي استلمها البارحة على طاولته. نفس الكلمات كانت مكتوبة عليها: "المكتبة، منتصف الليل."
أدرك إلياس الحقيقة: كل ما عاشه لم يكن وهمًا، بل كان دعوة للاستيقاظ. حياته لم تكن سوى ظلٍ لحياةٍ لم يعشها بعد، وكتابه لم يكن سوى صفحات فارغة بانتظار أن تُملأ.
الفصل السابع: البحث عن الذات
ومنذ تلك الليلة، قرر أن يكتب قصته بنفسه، قبل أن يكتبها أحدٌ غيره. مضت السنوات، عاش إلياس كاتبًا جوالًا، يبحث عن القصص التي لم تُحكَ بعد. كان يدرك الآن أن المعنى لا يُمنح، بل يُصنع.
خاض مغامرات كثيرة، سافر، كتب، عاش في أماكن لم يكن ليحلم بها يومًا. لكنه في أعماقه كان يعلم أنه لم يغلق بعد الصفحة الأخيرة من قصته، وأنه سيعود إلى ذلك الرجل يومًا ما.
الفصل الثامن: لقاء آخر
وفي ليلة أخرى، في مدينة أخرى، جلس في مقهى مهجور يكتب قصة جديدة. رفع رأسه للحظة، فرأى رجلًا يرتدي معطفًا أسود، واقفًا عبر الشارع، يحدق فيه بابتسامة خفيفة.
ابتسم إلياس هذه المرة. نهض بهدوء، وأغلق دفتره، ومشى نحوه دون خوف.
"هل وجدت الإجابة؟" سأله الرجل.
أجاب إلياس بهدوء: "لم أبحث عنها بعد، أنا فقط أعيشها الآن."
وابتلعهم الضباب.