جامع الفنا مراكش
الفصل الأول: صدى الحكايات في الهواء
في قلب مراكش، حيث تنبض الأزقة بالحياة، تمتدُّ ساحة جامع الفنا كلوحة حيّة تتجدد مع كل غروب. هناك، لا يُقاس الوقت بالساعات، بل بإيقاع الخطوات، بأصوات الدفوف، برائحة الشواء التي تمتزج بعطر البرتقال الطازج، وبالقصص التي تحلق في الهواء قبل أن تسكن في ذاكرة الساحة.
كان "إدريس" رجلاً في منتصف العمر، اعتاد على الجلوس في أحد المقاهي المطلة على الساحة، يراقب الحياة تتشكل أمامه كأنه يشاهد عرضًا مسرحيًا بلا ستار. لم يكن زائرًا عابرًا ولا سائحًا منبهرًا، بل كان ابن المدينة، لكن شيئًا في الساحة كان يجذبه دائمًا، كأنها تحمل سرًّا لم يكتشفه بعد.
في أحد تلك الأمسيات، وبينما كان يحتسي شاي النعناع الساخن، لفت انتباهه رجل مسنّ يجلس على حصيرة، وحوله دائرة من المستمعين. كان الحكواتي، ذلك الذي تتردد قصصه بين الجيل والجيل، يُحيك حكايته بصوت رخيم، يرفع نبرته حين تشتدّ الأحداث، ويخفضها حين يتسلل الغموض.
اقترب إدريس، انجذب إلى القصة كأنها تناديه. كانت تحكي عن تاجر جوال جاب المدن، وجمع من كل زاوية حكمة، ومن كل طريق درسًا، لكنه حين عاد إلى موطنه، لم يجد من يستمع إليه. في النهاية، اكتشف أن الكلمات ليست لمن ينطقها، بل لمن يصغي إليها.
تأمل إدريس وجوه المستمعين: شاب في مقتبل العمر، عجوز تنظر بشرود، طفل تتلألأ عيناه دهشة، وسائح يترجم الكلمات في مذكرته الصغيرة. الجميع، رغم اختلافهم، توحّدوا للحظات في الاستماع.
حين انتهت القصة، دوّى التصفيق، وتبعثرت الدنانير في صندوق الحكواتي. لكن إدريس لم يصفّق، بل ظلّ في مكانه، يتأمل كيف أن الكلمات قادرة على خلق عالم داخل عالم.
رفع الحكواتي بصره إليه، كأنّه لاحظ شروده، ثم قال بصوت هادئ:
"أتعرف لماذا تظل الساحة حيّة؟ لأنها لا تحفظ الخطوات، بل تحفظ الحكايات."
في تلك اللحظة، أدرك إدريس أن جامع الفنا لم يكن مجرّد ساحة… بل ذاكرة مفتوحة، تنتظر من يسجّل فيها بصمته.
الفصل الثاني: إيقاع الحياة في الساحة
لم يكن إدريس يعرف تمامًا ما جذبه في كلمات الحكواتي. ربما كانت طريقته في السرد، أو ربما فكرة أن الساحة ليست مجرد مكان، بل كيان حي، تتراكم فيه الحكايات كطبقات الزمن.
قرر إدريس أن يبقى في الساحة وقتًا أطول هذه الليلة، ليراقب الطقوس اليومية التي تمرّ عليه دائمًا دون أن يوليها اهتمامًا. لاحظ في الزاوية الأخرى رجلًا يضرب على "الدربوكة" بإيقاع متكرر، حوله حلقة صغيرة من المستمعين تهتز رؤوسهم على نغمة الطبل، وكأنهم يخوضون حوارًا صامتًا مع الإيقاع.
ليس بعيدًا عنهم، كان شابان يتبارزان على الطريقة التقليدية، بسيوف خشبية ودرع مصنوع من جلد الماعز، يلتف حولهما الصغار مبهورين بحركاتهما السريعة، بينما يضحك أحد المتفرجين قائلاً:
"يا بني، لو كنت في زمن الأجداد لربما صرت فارسًا في جيش السلطان!"
أما عابرو السبيل، فكانوا ينساقون نحو روائح الأطعمة التي تملأ الهواء، عربات البائعين تعرض رؤوس الخراف المشوية، أطباق الحلزون الساخنة، وأبخرة الشاي تتصاعد من الأباريق النحاسية. لمح إدريس رجلاً عجوزًا يجلس خلف طاولة صغيرة، يرصّ حبات الزيتون بتأنٍ، كأنه يبني شيئًا أثمن من مجرد طعام.
في أحد أركان الساحة، كانت مجموعة من النساء يفترشن الأرض، يزينّ أيدي الفتيات بنقوش الحناء المتقنة، يرسمن الزخارف بسرعة ودقة، بينما تضحك زبوناتهن وهن يتبادلن الحكايات.
مع مرور الوقت، بدأ إدريس يشعر أن الساحة ليست مجرد مجموعة من المشاهد العشوائية، بل إيقاع واحد تتناغم فيه كل هذه التفاصيل. كل شخص هنا يؤدي دوره في مسرح الحياة المفتوح، حيث لا يوجد جمهور حقيقي، فالجميع ممثل ومتفرج في آنٍ واحد.
عندما قرر العودة إلى المقهى، وجد الحكواتي لا يزال في مكانه، لكن هذه المرة لم يكن يسرد قصة، بل كان يراقب الساحة بصمت.
سأله إدريس:
"هل تروي القصص لأنها تستحق أن تُحكى، أم لأنها تمنحك مكانًا هنا؟"
ابتسم الحكواتي، ونظر نحو الساحة قائلاً:
"القصص مثل هذه الساحة… لا تحتاج إلى من يرويها، بل إلى من يسمعها. وأنت، يا صاحبي، يبدو أنك بدأت تصغي."
في تلك الليلة، عاد إدريس إلى منزله، لكنه شعر أن شيئًا بداخله قد تغيّر. أدرك أن جامع الفنا ليس مكانًا يمر به الناس… بل مكان يمر بهم.
الفصل الثالث: وجوه لا تُنسى
في اليوم التالي، استيقظ إدريس على إيقاع الساحة يدوي في ذاكرته. كان يشعر بشيء يشده للعودة، وكأن هناك لغزًا لم يُكشَف بعد. حين وصل، لم يكن بحاجة إلى البحث طويلًا حتى يلتقي بنفس المشاهد، لكن اليوم كان ينوي رؤية التفاصيل التي كانت تفوته.
عند مدخل الساحة، كان هناك رجل مسن، بائع عصير البرتقال، يسكب السائل الذهبي في الأكواب الزجاجية بحركة رشيقة، وكأنه يؤدي طقسًا مقدسًا. اقترب إدريس وطلب كوبًا، فتأمله العجوز وقال وهو يناوله العصير:
"وجوه الساحة لا تُنسى، وأنت لست زائرًا عابرًا، صحيح؟"
ضحك إدريس وقال:
"لست زائرًا، لكني أشعر أنني أرى المكان للمرة الأولى."
أومأ العجوز برأسه وقال:
"لأنك اليوم تنظر بعيني قلبك، لا بعيني رأسك."
تركه إدريس متأملًا كلماته، وتجوّل بين الحلقات التي بدأت تتشكل، كأن الساحة تستعد لعرضها اليومي. لاحظ رجلًا ضخم البنية يحمل قردًا صغيرًا على كتفه، يعرض حركات بهلوانية على إيقاع المزمار. كان القرد يقفز برشاقة، يخلع قبعته ويمدها للمتفرجين ليجمع القطع النقدية. وحين لم يُلقِ إدريس شيئًا، نظر إليه القرد بعينين مليئتين بالعِتاب، فابتسم وألقى درهمًا في القبعة.
في زاوية أخرى، كانت امرأة مسنّة تجلس بهدوء، تضع على طاولتها مجموعة من الكتب القديمة، أوراقها صفراء، أغلفتها ممزقة قليلاً، لكنها كانت تحمل أسماء لا تُخطئها العين. اقترب إدريس، فأشارت إلى أحدها قائلة:
"هذا لك."
كان كتابًا عن تاريخ مراكش، فتح إحدى صفحاته وقرأ:
"ليست المدينة شوارعها وأبنيتها، بل أرواح من مروا بها، من صاغوا أزقتها بالحكايات، وتركوا ظلالهم على جدرانها."
نظر إلى المرأة، فابتسمت وقالت:
"الساحة ليست مجرّد مكان، إنها دفتر كبير… بعضنا يكتب فيه، وبعضنا يقرأ فقط."
شعر إدريس أن كل من في الساحة يحمل حكمة مخبأة بين كلماته. كل وجه هنا كان فصلاً من كتاب لم ينتهِ بعد.
حين عاد إلى مقهاه المعتاد، وجد الحكواتي جالسًا وحده، يحدّق في الفضاء. جلس إدريس بجانبه وقال:
"أخبرني… من يكتب قصص هذه الساحة؟"
ابتسم الحكواتي وقال بهدوء:
"أولئك الذين يعيشونها… وأنت، يبدو أنك بدأت تكتب قصتك هنا."
في تلك اللحظة، أدرك إدريس أن الساحة لم تكن مجرد مكان يتكرر كل يوم… بل كانت حياة، تتغير بتغير من ينظر إليها.