هارون الرشيد والموت الذي لا ينام
في قصره الذهبي، حيث تمتزج روائح العود والمسك مع نغمات العود في ليالي بغداد الساحرة، جلس الخليفة هارون الرشيد على عرشه، متأملاً مملكته التي تمتد من المحيط الأطلسي إلى تخوم الصين. كان رجلاً من لحم ودم، لكنه في أعين الناس بدا أسطورة حية، رجلًا منسوجًا من خيوط المجد والثراء.
ذات ليلة، وبينما كان ينصت إلى أبي نواس وهو ينشد شعره الماجن، اقتحم عليه المجلس شيخ غريب، ذو لحية بيضاء ووجه محفور بتجاعيد الزمن. لم يكن حارسٌ قد أوقفه، ولم يره أحد وهو يدخل، كأنه خرج من بطن الظلام نفسه.
تقدم الرجل، وعلى شفتيه ابتسامة غامضة، وقال بصوت هادئ:
"يا أمير المؤمنين، جئت إليك برسالة من شخص لم يكتبها، ولم يرسلها، لكنه ينتظر منك الرد!"
قطّب هارون حاجبيه، وأمره أن يوضح كلامه.
قال الشيخ: "أنا رسول الموت، جئت أذكّرك أن كل سلطان يزول، وكل مجد يذوب، وكل قصورك ستصبح يومًا خرائب تسكنها الغربان. أنفاسك محدودة، وكل نبضة في قلبك هي خطوة نحو الفناء!"
ساد الصمت، وتوقف أبو نواس عن العزف، وجفت الحلوق من الرهبة. لكن هارون، الرجل الذي هز عروش الأرض، لم يرتعب، بل ابتسم ابتسامة تحدٍ، وقال:
"أيها الشيخ، إن كنت رسول الموت، فاعلم أنني أعطي للفقراء حتى يُغفر لي، وأحارب الأعداء حتى يُذكر اسمي، وأبني لأبقى في ذاكرة الزمن. فقل لسيدك، إن كان الموت حقًا، فإن الحياة حق أيضًا، وأنا أعيشها بملء يدي!"
هزّ الشيخ رأسه وقال: "يا أمير المؤمنين، أنت رجل حكيم، لكن الحكمة ليست في مواجهة الموت، بل في الاستعداد له."
ثم استدار وخرج كما دخل، دون أن يراه أحد أو يمنعه حاجب.
في تلك الليلة، لم ينم هارون الرشيد. ظل يتأمل سقف قصره المزخرف، ويتساءل: "هل كان ذلك الرجل حقيقة أم خيالًا؟ هل كانت رؤيا، أم أن الموت يرسل رسائله قبل أن يقرع الباب؟"
وفي صباح اليوم التالي، نادى على وزيره جعفر البرمكي وقال له:
"يا جعفر، اجعل لكل ساعة من يومي صدقة، ولكل خطوة في حياتي ذكرًا، فربما كان رسول الموت أقرب مما أظن!"
وهكذا، عاش الخليفة حياته، بين الترف والخشية، بين الضحك والبكاء، بين المجد والفناء… حتى جاء اليوم الذي سقط فيه مريضًا في طوس، وقال كلمته الشهيرة:
"يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه!"
ثم أسلم روحه… وأصبح مجرد اسم في كتب التاريخ، يتذكره الناس، كما نتذكر اليوم.