قصة قبل النوم: أمينة والنافذة الخشبية
![]() |
قصة قبل النوم: أمينة والنافذة الخشبية |
الفصل الأول: نافذة في الحائط العتيق
في قريةٍ صغيرةٍ تحاصرها أشجار الزيتون من الجهات الأربع، كانت أمينة، الطفلة ذات الأعوام التسعة، تحبّ الجلوس قرب نافذة خشبية قديمة في غرفة جدتها. لم تكن تلك النافذة تطلُّ على شيء مميز، بل كانت مواجهةً لحائط بيت الجيران المتهالك، لكن أمينة كانت ترى فيها عالماً لا يراه سواها.
كانت كل ليلة، بعد أن تفرغ من أداء واجباتها المدرسية، تجلس على كرسي جدتها الهزاز، تضع يديها الصغيرتين على حافة النافذة، وتنظر عبرها كأنما تنتظر شيئًا. كانت الجدة تضحك وتقول:
"يا أمينة، تلك نافذة ميتة، لا ريح تمرّ منها ولا طيف!"
لكن أمينة كانت تردّ بثقة الأطفال العجيبة:
"الخيال لا يحتاج ريحًا يا جدتي، يكفي أن أصدق."
وفي إحدى الليالي، وبينما كان ضوء القمر يتسلل من الشقوق، رأت أمينة شيئًا غريبًا: ظلّ صغير يمرّ بسرعة من طرف النافذة، ثم يختفي. لم يكن ظلّ قطة، ولا طيف ورقة تتمايل، بل كان أشبه بشخص... صغير جدًا!
شهقت أمينة، وضغطت كفها على قلبها، ثم همست:
"من هناك؟"
لكن لم يجبها أحد. فقط سكون الليل وصوت الجندب خلف الحائط.
في اليوم التالي، عادت أمينة إلى النافذة باكرًا. وضعت دفترها ورسوماتها أمامها، وبدأت ترسم ما رأته. رسمت نافذة، وظلاً صغيرًا له جناحان، وعينان لامعتان.
حين دخلت الجدة الغرفة ورأت الرسم، قالت وهي تضحك:
"ما هذا؟ جنّي أم عصفور؟"
لكن أمينة، بعينين حالمتين، أجابت:
"ليس جنّيًا، ولا عصفورًا. أظنّه... حارس الأحلام."
ابتسمت الجدة، لكنها لم تأخذ الأمر بجدّ. أما أمينة، فقد قررت أن تكتشف سرّ هذا "الحارس"، وأن تعرف لماذا ظهر عند نافذتها بالذات.
وهكذا تبدأ الحكاية...
حكاية نافذة قديمة، وفتاة صغيرة، وسرّ لا يُكشف إلا لمن يؤمن أن الخيال، أحيانًا، هو الباب إلى الحقيقة.
الفصل الثاني: الحارس الذي لا يُرى
في الليلة التالية، تسللت أمينة إلى غرفة الجدة قبل أن يعلن الليل انتصافه. أغلقت الباب بهدوء، وفتحت النافذة الخشبية قليلاً، رغم صريرها المزعج الذي قاوم صمت الليل.
جلست على الكرسي، ووضعت إلى جانبها كوب حليب دافئ، ودفتر ملاحظاتها، وقلبها الصغير ينبض بأسئلة لم تجد لها جوابًا.
"إن كنت موجودًا فعلاً، فعد إلي الليلة، أريد أن أعرف اسمك..."
قالتها أمينة همسًا، وكأنها تخاطب الهواء ذاته.
ومضت دقائق. ثم ساعة. والهدوء لا يكسره إلا صوت عقرب الساعة، وصوت أنفاسها الهادئة. وما إن بدأت جفونها تثقل، حتى شعرت بنسمة باردة تمرّ فوق خديها، تلاها صوت خافت، كأنما خرج من قلب الغيمة:
"لم أكن أنوي أن أظهر... لكنك دعوتني باسمٍ لم أسمعه منذ قرون."
فزعت أمينة، لكنها لم تصرخ. كانت تنتظر هذا اللقاء، وإن لم تكن تعرف ما الذي سيحدث.
تلفّتت تبحث عن مصدر الصوت، فإذا بها تراه:
كائن صغير، في حجم قبضة اليد، له جناحان شفافان كجناحي اليعسوب، وعينان تشعّان بزرقة السماء وقت الفجر، يقف فوق حافة النافذة.
"هل أنت... حارس الأحلام؟"
هزّ رأسه، وقال بصوت يشبه نغمة الناي:
"كان ذلك اسمي... قبل أن ينساني الجميع."
سألته أمينة بدهشة: "لماذا لا يراك الناس؟"
أجابها، وهو يتأمل الظلمة خلف الحائط:
"لأنهم توقفوا عن الإيمان بالأحلام. لم يعودوا ينتظرون شيئًا من الليل سوى النوم، بينما الليل... كان دومًا موعدنا مع السحر."
قالت أمينة، وعيناها تتسعان بالفضول:
"ولماذا اخترتني؟"
ابتسم الكائن، وقال:
"لأنك انتظرت. وحدك من فتحت نافذة قديمة في زمن يغلق الناس فيه نوافذ الخيال."
سكت لحظة، ثم أخرج من جناحه شيئًا صغيرًا يشبه البذرة، ناولها لأمينة وقال:
"هذه بذرة حلم. ازرعيها تحت وسادتك الليلة، لكن احذري... لا تسمحي للخوف أن يقترب منها، فإن فعل، فلن تنمو."
أخذت أمينة البذرة، ونظرت إليها بعينين تلمعان كمن عثر على كنز، ثم سألت:
"وماذا سيحدث إن نمت؟"
قال وهو يبتعد طائرًا:
"ستنفتح لك أبوابٌ لم يعرفها بشر منذ زمنٍ طويل..."
واختفى.
أغلقت أمينة النافذة ببطء، وعقلها يعجّ بالأفكار. نامت وهي تضم البذرة الصغيرة بين كفيها.
لكن ما لم تكن تعلمه أمينة، أن البذرة ستبدأ الليلة أولى تجاربها... وأن الظلال التي كانت تراقب النافذة من بعيد، لم تكن تسرّ بعودة الحارس من جديد...
الفصل الثالث: البذرة والظل
استيقظت أمينة قبل الفجر بلحظات، على صوتٍ لم تسمعه من قبل. لم يكن قويًا، بل كان كأنين بعيد يصدر من أعماق وسادتها. فتحت عينيها، وجدت الغرفة غارقة في ظلمة رمادية، والنافذة... مفتوحة رغم أنها أغلقتها بإحكام.
نهضت ببطء، ولم تجرؤ على إضاءة المصباح. نظرت تحت وسادتها، فوجدت البذرة التي أعطاها لها الحارس، لكنها لم تعد كما كانت. كانت تنبض كقلب صغير، وتُخرج خيوطًا ضوئية شفافة... كأنها بدأت تنمو فعلًا.
لكن ما أقلقها لم يكن البذرة، بل ذلك الصوت، وتلك الريح الباردة التي هبت من النافذة المفتوحة، تحمل معها همسًا مشوّشًا لا يُفهم منه إلا كلمات متقطعة:
"انزعيها... لا... تزرعيها..."
اقتربت أمينة من النافذة، فوقعت عيناها على شيء لم تره من قبل: فوق الحائط المقابل، كان هناك ظل... ليس لرجل، ولا لطفل... بل مخلوق طويل كأنه ممدود بلا نهاية، رأسه صغير، ويداه طويلتان تمتدان نحو نافذتها كأنما يحاول الوصول.
رجفت قدماها. لكنها لم تصرخ.
ظلّت تنظر إليه حتى قال بصوتٍ كالفحيح:
"الحُلم إذا نبت... سَقط العالم في الفوضى. أُعيديه لمكاني، قبل أن يفوت الأوان."
تراجعت أمينة، وأغلقت النافذة فجأة، فاختفى الظل... أو هكذا ظنّت.
لكن حين أدارت وجهها نحو المرآة، رأت خلفها شيئًا آخر... لم يكن الحارس، ولا كان الظل.
كان وجهها.
لكن ليس كما تعرفه.
كان باهتًا، وعيناها سوداوان بالكامل، وابتسامتها غريبة... كأنها هي، ولكن ليست هي.
شهقت وتراجعت، فاختفت الصورة.
التفتت سريعًا إلى البذرة، فوجدت حولها قطرات من السواد تتساقط، وكأن شيئًا ما يحاول إطفاء نورها.
عندها، عاد صوت الحارس، لكنه كان ضعيفًا هذه المرة، كما لو أنه يتحدث من مكان بعيد جدًا:
"إن لم تحمِ الحُلم الليلة... سيولد الكابوس."
الفصل الرابع: حارس الضوء والنهاية التي لم تكن نهاية
جلست أمينة قرب البذرة وهي تتنفس بصعوبة، كأن الهواء من حولها صار ثقيلًا، مشبعًا بالخوف والظلال. لم تكن تعرف ماذا تفعل، فقط كلمات الحارس الأخيرة كانت تتردد في عقلها:
"إن لم تحمِ الحُلم الليلة... سيولد الكابوس."
فكّرت بسرعة. ماذا يحمي الحلم؟ ما الذي يُبقي الضوء حيًّا في هذا الظلام؟
نظرت إلى الدفتر الذي رسمت فيه صورة الحارس. أمسكت به، وبدأت ترسم من جديد... لكنها لم ترسم ظلًّا أو خوفًا، بل رسمت شمسًا صغيرة فوق البذرة، وكتبت تحتها:
"النور لا يُهزم، حتى إن أحاطه الظلام."
وفجأة، بدأت البذرة تتوهّج من جديد، والنور فيها يطرد القطرات السوداء واحدة تلو الأخرى. سمعَتْ صوت الحارس يعود، أقوى هذه المرة، يقول:
"كل حلم يحتاج إلى حارس، ولكن كل حارس يحتاج إلى مؤمن... وقد كنتِ أنتِ، أمينة، المؤمنة الوحيدة."
اهتزّت الجدران بلطف، كما لو أن شيئًا كان يغادر، وكأن الظل الذي هددها من الحائط، قد تلاشى إلى الأبد. وحين نظرت إلى النافذة، رأته من بعيد، يبتعد على جناحيه نحو السماء، وقد عاد وجهه كما تذكره: مبتسمًا، هادئًا، نقيًّا.
لكن قبل أن يختفي تمامًا، قال لها:
"لن تكون هذه آخر بذرة... ولكن كل من يأتي بعدك، سيحتاج إلى قصتك."
أغلقت أمينة دفترها، واحتفظت بالبذرة في علبة خشبية، لتظلّ ذكرى... أو ربما مفتاحًا لبداية أخرى.
وفي الصباح، حين سألتها الجدة:
"كيف نمتِ الليلة؟"
أجابت أمينة وهي تبتسم:
"نمتُ وأنا أحرس حلمًا... صغيرًا، لكنه يشبه الضوء."
خاتمة الحكاية:
وهكذا يا صغيري، كلما نظرت إلى نافذة لا تطل على شيء، تذكّر أن بعض النوافذ لا تُفتح على الخارج... بل على الداخل، على الحلم، على الخيال الذي يسكنك. وإن رأيت ظلًا أو سمعت همسًا، لا تخف، فقط ابحث عن البذرة، وازرعها بالإيمان.
لأن في كل قلب طفل... حارس، وفي كل حكاية قبل النوم، بابٌ سرّي لا يُفتح إلا لمن آمن أن الليل لا يجلب الظلام فقط، بل أسرار النور أيضًا.