عمر بن الخطاب: عدالة في زمن العدل

عمر بن الخطاب: عدالة في زمن العدل

عمر بن الخطاب
عمر بن الخطاب


المشهد الأول: الجمل المفقود

في أعماق صحراء الجزيرة العربية، كانت المدينة لا تزال تنام تحت سماء مليئة بالنجوم التي تتسلل خيوطها إلى الأرض وكأنها تتنفس ببطء. في ذلك الصباح الباكر، ارتفعت أصوات بعيدة، حيث كان الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يسير متأملًا على غير العادة، بعيدًا عن مملكته الواسعة وأراضيها المترامية.
فجأة، أوقفه أحد الرعاة: "يا أمير المؤمنين، لقد ضاع الجمل الذي أمرتني بحراسته."
أجاب عمر بحسم: "إذا ضاع الجمل، فأنا من المسؤول عن ضياعه."
وما لبث أن سمع صوت الجمل في البعد، فعاد إليه مبتسمًا: "إذن، أنا لا ألومك، بل ألوم نفسي."
في تلك اللحظة، لم يكن عمر خليفة المسلمين، بل رجلًا يحمل على عاتقه مسؤولية كل شيء. ولم تكن هذه الحادثة مجرد ضياع حيوان، بل كانت علامة على قدره العادل، الذي يميز بين الحق والباطل في أبسط الأمور.

المشهد الثاني: الوعاء الفارغ

في إحدى ليالي المدينة المنورة، كان عمر بن الخطاب يسرح بأفكاره وسط الأجواء الهادئة. لكنه شعر بشيء غريب، صوت خافت يتسرب إلى أذنه. تتبع الصوت ليكتشف امرأة تجلس أمام قدرٍ فارغ، تنفخ في الحطب أمام أطفالها، وكأنها توهمهم بأنها تعد لهم الطعام.
اقترب منها وقال بصوت منخفض: "ماذا تفعلين؟"
قالت المرأة: "أشعل النار لأوهم أولادي بأنني أعد لهم الطعام كي يناموا، فليس لدينا شيء نأكله."
لم يغضب عمر، بل ركض مسرعًا إلى بيت المال، وحمل الدقيق بنفسه، حتى صار يطبخ لهم، ويشعل النار بيده.
"لو أن شاةً في العراق تعثرت، لكان عمر مسؤولًا عن ذلك." قالها عمر ذات يوم، ليكون هذا أحد أصدق تجسيداتها في تلك اللحظة.

المشهد الثالث: الصرخة التي لم تُكسر

في وقت آخر، جاء رجل قبطي إلى مدينة المنورة، ليشتكي ظلمًا وقع عليه من ابن والي مصر. كان ابن الوالي قد ضربه لأنه فاز في سباق الخيول. كان القبطي يتوقع أن يُنكر الخليفة تلك الشكوى، لكن عمر لم يكن رجلًا يميز بين مسلم وغير مسلم.
عندما سمع الشكوى، كتب إلى والي مصر، عمرو بن العاص، وقال له: "إذا وصلك كتابي هذا، فاحضر أنت وابنك فورًا."
حين وصلوا، أمر عمر القبطي بأن يضرب ابن الوالي، ففعل ذلك دون تردد.
وقال عمر، مخاطبًا الحضور: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟"

المشهد الرابع: وصية الدم الأخير

في اللحظات الأخيرة من حياة عمر بن الخطاب، حين أصابه عبد المجوسي في الصلاة، وجاءه الصحابة يطلبون منه أن يوصيهم، قال لهم: "لو أن لي ملء الأرض ذهبًا، لافتديت به من عذاب الله."
كان يخشى على نفسه من التقصير في حق الأمة، رغم كل ما قدمه. كانت الكلمات الأخيرة له تحمل في طياتها معانٍ عميقة عن العدالة والإنصاف.
قال عمر: "لو أن شاةً في العراق تعثرت، لكان عمر مسؤولًا عن ذلك."
لم يكن الموت يخيفه، بل كان يخشى أن يسأل عن شيء فرط فيه، أو ظلم لم يره.

المشهد الخامس: صوت فوق المنبر

في يوم من الأيام، أثناء خطبته على منبر رسول الله، قال عمر بن الخطاب: "ألا لا تُغالوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمةً في الدنيا أو تقوى عند الله، لكانت أولى بها فاطمة بنت رسول الله ﷺ."
لكن من بين الجموع، نادت امرأة قائلة: "يا عمر، ليس لك ذلك!"
توقف عمر، وأجابها بصدق: "أصابت المرأة، وأخطأ عمر."
لم يغضب، ولم يصرّ على رأيه. بل اعترف بخطئه فورًا، وأعاد صياغة كلماته، قائلاً: "لو أن النساء عبيدًا، لما قال أحدٌ لهن هذا"

الخاتمة: خلاصة العدل

عدالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت لا تقتصر على الحكم، بل كانت فلسفة حياة، تُكرس الإنصات، الاعتراف بالخطأ، والمساواة بين الناس. كان عمر يسمع صوت المظلومين، ويخاف الله في كل خطوة. وكان يتذكر دائمًا أن المسؤولية لا تعني القدرة على التحكم، بل القدرة على الإنصاف.
وفي سيرته العطرة، يبقى العدل هو المعيار الأسمى. فقد حملته هموم الأمة، فكان يديرها بحكمة، ويوزعها برفق، ويبنيها على أساسٍ ثابتٍ من الحق والمساواة، حتى صار رمزًا للعدالة في زمنٍ لم يكن في حاجة إلى سيوف، بل إلى قلوبٍ تزن الأفعال قبل الأقوال.
تعليقات